للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِمَّا يَتَحَرَّاهُ بِاجْتِهَادِهِ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ عِيسَى بْنُ أَبَانَ بِأَمْرِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ عَلَى حُكْمِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْأَحْكَامِ وَشَبَّهَهُ بِهِ.

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} قَدْ انْتَظَمَ ذَلِكَ تَحَرِّيَ الصِّدْقِ وَعَدْلَ الْقَوْلِ فِي الشَّهَادَاتِ وَالْأَخْبَارِ وَالْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ فِيهِ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} [النساء:١٣٥] وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي مَوْضِعِهِ. وَقَدْ انْتَظَمَ قَوْلُهُ: {وَإِذَا قلتم فاعدلوا} مَصَالِحَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ; لِأَنَّ مَنْ تَحَرَّى صِدْقَ الْقَوْلِ فِي الْعَدْلِ فَهُوَ أَنْ يَتَحَرَّى الْعَدْلَ فِي الْفِعْلِ أَحْرَى، وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَقَدْ حَازَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ; نَسْأَلُ اللَّهَ حُسْنَ التَّوْفِيقِ لِذَلِكَ.

قَوْله تَعَالَى: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أوفوا} عَهْدُ اللَّهِ يَشْتَمِلُ عَلَى أَوَامِرِهِ وَزَوَاجِرِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ} [يس:٦٠] وَقَدْ يَتَنَاوَلُ الْمَنْذُورَ وَمَا يُوجِبُهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْقُرَبِ, أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} .

وقَوْله تَعَالَى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} الْآيَةُ; فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالصِّرَاطِ الشَّرِيعَةُ الَّتِي تَعَبَّدَ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ; وَالصِّرَاطُ هُوَ الطَّرِيقُ، وَإِنَّمَا قِيلَ لِلشَّرْعِ الطَّرِيقُ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الثَّوَابِ فِي الْجَنَّةِ فَهُوَ طَرِيقٌ إلَيْهَا وَإِلَى النَّعِيمِ، وَأَمَّا سَبِيلُ الشَّيْطَانِ فَطَرِيقٌ إلَى النَّارِ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْهَا. وَإِنَّمَا جَازَ الْأَمْرُ بِاتِّبَاعِ الشَّرْعِ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ الْوُجُوبِ وَالنَّفَلِ وَالْمُبَاحِ كَمَا جَازَ الْأَمْرُ بِاتِّبَاعِهِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اتِّبَاعَهُ إنَّمَا هُوَ اعْتِقَادُ صِحَّتِهِ عَلَى تَرْتِيبِهِ مِنْ قُبْحِ الْمَحْظُورِ وَوُجُوبِ الْفَرْضِ وَالرَّغْبَةِ فِي النَّفْلِ وَاسْتِبَاحَةِ الْمُبَاحِ وَالْعَمَلِ بِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ مُقْتَضَى الشَّرْعِ لَهُ مِنْ إيجَابٍ أَوْ نَفْلٍ أَوْ إبَاحَةٍ.

قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} . قيل في قوله: {ثُمَّ} إنَّ مَعْنَاهُ: ثُمَّ قُلْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا; لِأَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} وَقِيلَ مَعْنَاهُ: وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ، كَقَوْلِهِ: {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ} وَمَعْنَاهُ: وَاَللَّهُ شَهِيدٌ، وَكَقَوْلِهِ: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد:١٧] وَمَعْنَاهُ: وَكَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صِلَةً لِلْكَلَامِ وَيَكُونُ مَعْنَاهُ: ثُمَّ بَعْدَ مَا ذَكَرْت لَكُمْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّا آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ، وَنَحْوُهُ مِنْ الْكَلَامِ.

قَوْله تَعَالَى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا} . هُوَ أَمْرٌ بِاتِّبَاعِ الْكِتَابِ

<<  <  ج: ص:  >  >>