للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تَقُومُ} [الطور:٤٨] فَلَمَّا نَزَلَ ذَلِكَ وَأُمِرَ بِالتَّسْبِيحِ عِنْدَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ تَرَكَ الْأَوَّلَ; وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: "يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُمَا قَدْ رُوِيَا جَمِيعًا". قَوْله تعالى: {إِنَّ صَلاتِي} يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهَا صَلَاةَ الْعَبْدِ {وَنُسُكِي} الْأُضْحِيَّةَ; لِأَنَّهَا تُسَمَّى نُسُكًا، وَكَذَلِكَ كُلُّ ذَبِيحَةٍ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَهِيَ نُسُكٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:١٩٦] وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "النُّسُكُ شَاةٌ"، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في يَوْمَ النَّحْرِ: " إنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي يَوْمِنَا هَذَا الصَّلَاةُ ثُمَّ الذَّبْحُ" فَسَمَّى الصَّلَاةَ وَالذَّبْحَ جَمِيعًا نُسُكًا، وَلَمَّا قَرَنَ النُّسُكَ إلَى الصَّلَاةِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ صَلَاةُ الْعِيدِ وَالْأُضْحِيَّةُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ. وقَوْله تَعَالَى: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: ١٦٣] قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: {أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ} .

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} يُحْتَجُّ بِهِ فِي امْتِنَاعِ جَوَازِ تَصَرُّفِ أَحَدٍ عَلَى غَيْرِهِ إلَّا مَا قَامَتْ دَلَالَتُهُ، لِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ أَحْكَامَ أَفْعَالِ كُلِّ نَفْسٍ مُتَعَلِّقَةٌ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا; فَيُحْتَجُّ بِعُمُومِهِ فِي امْتِنَاعِ جَوَازِ تَزْوِيجِ الْبِكْرِ الْكَبِيرَةِ بِغَيْرِ إذْنِهَا وَفِي بُطْلَانِ الْحَجْرِ عَلَى امْتِنَاعِ جَوَازِ بَيْعِ أَمْلَاكِهِ عَلَيْهِ وَفِي جَوَازِ تَصَرُّفِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ سَفِيهًا، لِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى بِاكْتِسَابِ كُلِّ نَفْسٍ عَلَى نَفْسِهِ وَفِي نَظَائِرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ.

وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} إخْبَارٌ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُؤَاخِذُ أَحَدًا بِذَنْبِ غَيْرِهِ وَأَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ الْأَبْنَاءَ بِذَنْبِ الْآبَاءِ. وَقَدْ احْتَجَّتْ عَائِشَةُ فِي رَدِّ قَوْلِ مَنْ تَأَوَّلَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ" فَقَالَتْ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وَإِنَّمَا مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَهُودِيٍّ يُبْكَى عَلَيْهِ فَقَالَ: "إنَّهُ لَيُعَذَّبُ وَهُمْ يَبْكُونَ عَلَيْهِ" وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقِيلَ: إنَّ أَصْلَهُ الْوِزْرُ وَالْمَلْجَأُ، مِنْ قَوْلِهِ: {كَلَّا لا وَزَرَ} [القيامة:١١] وَلَكِنَّهُ جَرَى فِي الْأَغْلَبِ عَلَى الْإِثْمِ وَشُبِّهَ بِمَنْ الْتَجَأَ إلَى غَيْرِ مَلْجَأٍ، وَيُقَالُ: "وَزَرَ يَزِرُ وَوَزِرَ يَوْزَرُ وَوُزِرَ يُوزَرُ فَهُوَ مَوْزُورٌ", وَكُلُّهُ بِمَعْنَى الْإِثْمِ; وَالْوَزِيرُ بِمَعْنَى الْمَلْجَأِ; لِأَنَّ الْمَلِكَ يَلْجَأُ إلَيْهِ فِي الْأُمُورِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب.

<<  <  ج: ص:  >  >>