الثِّيَابَ قَدْ دَنَّسَتْهَا الْمَعَاصِي فِي زَعْمِهِمْ فَيَتَجَرَّدُونَ مِنْهَا. وَقِيلَ إنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ تَفَاؤُلًا بِالتَّعَرِّي مِنْ الذُّنُوبِ.
وَقَالَ بَعْضُ مَنْ يَحْتَجُّ لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ: إنَّ هَؤُلَاءِ السَّلَفَ لَمَّا ذَكَرُوا سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ وَهُوَ طَوَافُ الْعُرْيَانِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهَا مَقْصُورًا عَلَيْهِ. وَلَيْسَ هَذَا عِنْدَنَا كَذَلِكَ; لِأَنَّ نُزُولَ الْآيَةِ عِنْدَنَا عَلَى سَبَبٍ لَا يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ بِحُكْمِهَا عَلَيْهِ لِأَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَنَا لِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا لِلسَّبَبِ. وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَمَا ذُكِرَ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ وُجُوبَهُ فِي الصَّلَاةِ; لِأَنَّهُ إذَا وَجَبَ السَّتْرُ فِي الطَّوَافِ فَهُوَ فِي الصَّلَاةِ أَوَجَبُ; إذْ لَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ بَيْنَهُمَا.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَمْنَعَ تَرْكُ السَّتْرِ صِحَّةَ الصَّلَاةِ كَمَا لَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ الطَّوَافِ الَّذِي فِيهِ نَزَلَتْ الْآيَةُ وَإِنْ وَقَعَ نَاقِصًا. قِيلَ لَهُ: ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي بُطْلَانَ الْجَمِيعِ عِنْدَ عَدَمِ السَّتْرِ، وَلَكِنَّ الدَّلَالَةَ قَدْ قَامَتْ عَلَى جَوَازِ الطَّوَافِ مَعَ النَّهْيِ كَمَا يَجُوزُ الْإِحْرَامُ مَعَ السَّتْرِ وَإِنْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَلَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ عُرْيَانًا; وَلِأَنَّ تَرْكَ بَعْضِ فُرُوضِ الصَّلَاةِ يُفْسِدُهَا مِثْلُ الطَّهَارَةِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، وَتَرْكُ بَعْضِ فُرُوضِ الْإِحْرَامِ لَا يُفْسِدُهُ; لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ الْإِحْرَامَ فِي الْوَقْتِ ثُمَّ أَحْرَمَ صَحَّ إحْرَامُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَحْرَمَ وَهُوَ مُجَامِعٌ لِامْرَأَتِهِ وَقَعَ إحْرَامُهُ، فَصَارَ الْإِحْرَامُ آكِدًا فِي بَقَائِهِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ مِنْ مُوجِبَاتِ الْإِحْرَامِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُفْسِدَهُ ترك الستر ولا يمنع وقوعه.
ويدل عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى الطَّوَافِ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الصَّلَاةُ قَوْله تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} وَالطَّوَافُ مَخْصُوصٌ بِمَسْجِدٍ وَاحِدٍ وَلَا يُفْعَلُ فِي غَيْرِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ الصَّلَاةُ الَّتِي تَصِحُّ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ حَدِيثُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يُصَلِّ أَحَدُكُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ" وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ الْحَارِثِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارٍ" فَنَفَى قَبُولَهَا لِمَنْ بَلَغَتْ الْحَيْضَ فَصَلَّتْهَا مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ، كَمَا نَفَى قَبُولَهَا مَعَ عَدَمِ الطَّهَارَةِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ" فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ مِنْ فَرَوْضِهَا. وَأَيْضًا قَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ; وَلِذَلِكَ يَأْمُرُهُ مُخَالِفُنَا بِإِعَادَتِهَا فِي الْوَقْتِ، فَإِذَا كَانَ مَأْمُورًا بِالسَّتْرِ وَمَنْهِيًّا عَنْ تَرْكِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَأْخُوذٌ عَنْ الْآيَةِ وَأَنَّ الْآيَةَ قَدْ أُرِيدَ بِهَا السَّتْرُ فِي الصَّلَاةِ، وَالثَّانِي: أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي فَسَادَ الْفِعْلِ إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى الْجَوَازِ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَوْ كَانَ السَّتْرُ مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ لَمَا جَازَتْ الصَّلَاةُ مَعَ عَدَمِهِ عند
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute