للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالسَّمْنِ فَقَالَ: "إنَّ الْحَلَالَ الَّذِي أَحَلَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ، وَالْحَرَامَ الَّذِي حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ مِنْهُ".

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذِهِ الْأَخْبَارُ فِيهَا إبَاحَةُ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ وَالْفِرَاءِ وَالْجُبْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرْنَاهُ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ مِنْ النَّصِّ عَلَى إبَاحَةِ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ مِنْ الْمَيْتَةِ، وَحَدِيثِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فِي إبَاحَةِ الْفِرَاءِ والمساتق. وَالْآخَرُ: مَا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ سَلْمَانَ، وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى الْإِبَاحَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُحَرَّمًا لَأَجَابَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّحْرِيمِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا لَمْ يُذْكَرْ بِتَحْرِيمِ وَلَا تَحْلِيلٍ فَهُوَ مُبَاحٌ بِقَوْلِهِ: "وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ". وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ تَحْرِيمُ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ وَنَحْوِهِمَا، بَلْ فِيهِ مَا يُوجِبُ الْإِبَاحَةَ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ} [النحل: ٥] وَالدِّفْءُ: مَا يُتَدَفَّأُ بِهِ مِنْ شَعْرِهَا وَوَبَرِهَا وَصُوفِهَا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي إبَاحَةَ الْجَمِيعِ مِنْ الْمَيْتَةِ وَالْحَيِّ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ} [النحل: ٨٠] فَعَمَّ الْجَمِيعَ بِالْإِبَاحَةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمُذَكَّى مِنْهُ وَبَيْنَ الْمَيْتَةِ.

وَمَنْ حَظَرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِنْ الْمَيْتَةِ احْتَجَّ فِيهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: ٣] وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُهَا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا، فَإِذَا كَانَ الصُّوفُ وَالشَّعْرُ وَالْعِظَامُ وَنَحْوُهَا مِنْ أَجْزَائِهَا اقْتَضَتْ الْآيَةُ تَحْرِيمَ جَمِيعِهَا فَيُقَالُ لَهُ: إنَّمَا الْمُرَادُ بِالْآيَةِ مَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْأَكْلُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: ١٤٥] فَأَخْبَرَ أَنَّ التَّحْرِيمَ مَقْصُورٌ عَلَى مَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْأَكْلُ. وَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "إنَّمَا حُرِّمَ مِنْ الْمَيْتَةِ لَحْمُهَا" وَفِي خَبَرٍ آخَرَ: "إنَّمَا حُرِّمَ أَكْلُهَا" فَأَبَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ. فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ الشَّعْرُ وَالصُّوفُ وَالْعَظْمُ وَنَحْوُهَا مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَأْكُولِ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا التَّحْرِيمُ، وَمِنْ حَيْثُ خَصَّصْنَا جِلْدَ الْمَيْتَةِ الْمَدْبُوغَ بِالْإِبَاحَةِ لِلْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِيهِ وَجَبَ تَخْصِيصُ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ وَمَا لَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْأَكْلُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُحَرَّمِ بِالْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ فِيهَا مِمَّا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ لَمَّا كَانَ خُرُوجُهُ عَنْ حَدِّ الْأَكْلِ بِالدَّبَّاغِ مُبِيحًا لَهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَ سَائِرِ مَا لَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْأَكْلُ مِنْهَا مِنْ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ وَنَحْوِهِمَا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ الْأَخْبَارَ الْوَارِدَةَ فِي إبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا حَلْقُ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ عَنْهَا، بَلْ فِيهَا الْإِبَاحَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ إبَاحَةَ الِانْتِفَاعِ بِهَا بِمَا عَلَيْهَا مِنْ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ، وَلَوْ كَانَ التَّحْرِيمُ ثَابِتًا فِي الصُّوفِ وَالشَّعْرِ لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِعِلْمِهِ أَنَّ الْجُلُودَ لَا تَخْلُو مِنْ أَجْزَاءِ الْحَيَوَانِ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ حَيَاةٌ وَمَا لَا حَيَاةَ فِيهِ لَا يَلْحَقُهُ حُكْمُ الْمَوْتِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الشَّعْرَ وَنَحْوَهُ لَا حَيَاةَ فِيهِ، أَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يَأْلَمْ بِقَطْعِهَا، وَلَوْ

<<  <  ج: ص:  >  >>