للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

جَهَرَ وَفِيمَا أَسَرَّ" فِي رِوَايَةِ الْمُزَنِيّ، وَفِي الْبُوَيْطِيِّ: "أَنَّهُ يَقْرَأُ فِيمَا أَسَرَّ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ فِي الْأُولَيَيْنِ وَأُمِّ الْقُرْآنِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ وَفِيمَا جَهَرَ فِيهِ الْإِمَامُ لَا يَقْرَأُ مَنْ خَلْفَهُ إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ قَالَ الْبُوَيْطِيُّ: وَكَذَلِكَ يَقُولُ اللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ بَيَّنَّا دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ الْإِنْصَاتِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ فِي حَالِ الْجَهْرِ وَالْإِخْفَاءِ، وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْإِنْصَاتُ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْكَلَامِ وَالسُّكُوتِ لِاسْتِمَاعِ الْقِرَاءَةِ، وَلَا يَكُونُ الْقَارِئُ مُنْصِتًا وَلَا سَاكِتًا بِحَالٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ السُّكُوتَ ضِدُّ الْكَلَامِ، وَهُوَ تَسْكِينُ الْآلَةِ عَنْ التَّحْرِيكِ بِالْكَلَامِ الَّذِي هُوَ حُرُوفٌ مُقَطَّعَةٌ مَنْظُومَةٌ ضَرْبًا مِنْ النِّظَامِ، فَهُمَا يَتَضَادَّانِ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ بَآلَةِ اللِّسَانِ وَتَحْرِيكِ الشَّفَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُقَالُ سَاكِتٌ مُتَكَلِّمٌ كَمَا لَا يُقَالُ سَاكِنٌ مُتَحَرِّكٌ؟ فَمَنْ سَكَتَ فَهُوَ غَيْرُ مُتَكَلِّمٍ وَمَنْ تَكَلَّمَ فَهُوَ غَيْرُ سَاكِتٍ.

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ يُسَمَّى مُخْفِي الْقِرَاءَةِ سَاكِتًا إذَا لَمْ تَكُنْ قِرَاءَتُهُ مَسْمُوعَةً; كَمَا رَوَى عُمَارَةُ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا كَبَّرَ سَكَتَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ فَقُلْت لَهُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أَرَأَيْت سَكَتَاتِك بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ أَخْبِرْنِي مَا تَقُولُ؟ قَالَ: "أَقُولُ اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْت بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَسَمَّاهُ سَاكِتًا وَهُوَ يَدْعُو خَفِيًّا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ السُّكُوتَ إنَّمَا هُوَ إخْفَاءُ الْقَوْلِ وَلَيْسَ يَتْرُكُهُ رَأْسًا. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا سَمَّيْنَاهُ سَاكِتًا مَجَازًا; لِأَنَّ مَنْ لَا يَسْمَعُهُ يَظُنُّهُ سَاكِتًا، فَلَمَّا أَشْبَهَ السَّاكِتَ فِي هَذَا الْوَجْهِ سَمَّاهُ بِاسْمِهِ لِقُرْبِ حَالِهِ مِنْ حَالِ السَّاكِتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة:١٨] تَشْبِيهًا بِمَنْ هَذِهِ حَالُهُ، وَكَمَا قَالَ فِي الْأَصْنَامِ: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ} [الأعراف:١٩٨] تَشْبِيهًا لَهُمْ بِمَنْ يَنْظُرُ وَلَيْسَ هُوَ بِنَاظِرٍ فِي الْحَقِيقَةِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا يَقْرَأُ الْمَأْمُومُ فِي حَالِ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ وَإِنَّمَا يَقْرَأُ فِي حَالِ سُكُوتِهِ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: "كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَكْتَتَانِ فِي صَلَاتِهِ إحْدَاهُمَا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ وَالْأُخْرَى بَعْدَهَا"، فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ تَكُونَ لَهُ سَكْتَةٌ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ لِيَقْرَأَ الَّذِينَ أَدْرَكُوا أَوَّلَ الصَّلَاةِ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ ثُمَّ يُنْصِتُ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ، فَإِذَا فَرَغَ سَكَتَ سَكْتَةً أُخْرَى لِيَقْرَأَ مَنْ لَمْ يُدْرِكْ أَوَّلَ الصَّلَاةِ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ. قِيلَ لَهُ: أَمَّا حَدِيثُ السَّكْتَتَيْنِ فَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ وَلَوْ ثَبَتَ لَمْ يُدْرَكْ عَلَى مَا ذَكَرْت; لِأَنَّ السَّكْتَةَ الْأُولَى إنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ الِاسْتِفْتَاحِ، وَالثَّانِيَةُ إنْ ثَبَتَتْ فَلَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى أَنَّهَا بِمِقْدَارِ مَا يَقْرَأُ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَإِنَّمَا هِيَ فَصْلٌ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ وَبَيْنَ تَكْبِيرِ الرُّكُوعِ لِئَلَّا يَظُنَّ مَنْ لَا يَعْلَمُ أَنَّ التَّكْبِيرَ مِنْ الْقِرَاءَةِ إذَا كَانَ مَوْصُولًا بِهَا، وَلَوْ كَانَتْ السَّكْتَتَانِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِمِقْدَارِ قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ لَكَانَ ذَلِكَ مُسْتَفِيضًا وَنَقْلُهُ شَائِعًا ظَاهِرًا، فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِفَاضَةِ مَعَ عُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ; إذْ كَانَتْ مَفْعُولَةً لِأَدَاءِ فَرْضِ الْقِرَاءَةِ مِنْ الْمَأْمُومِ ثَبَتَ أَنَّهُمَا غَيْرُ ثَابِتَتَيْنِ. وَأَيْضًا

<<  <  ج: ص:  >  >>