للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

جَنَحَتْ السَّفِينَةُ إذَا مَالَتْ، وَالسَّلْمُ الْمُسَالَمَةُ. وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُمْ إنْ مَالُوا إلَى الْمُسَالَمَةِ، وَهِيَ طَلَبُ السَّلَامَةِ مِنْ الْحَرْبِ، فَسَالِمْهُمْ وَاقْبَلْ ذَلِكَ منهم. وإنما قال: {فَاجْنَحْ لَهَا} لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ الْمُسَالَمَةِ.

وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي بَقَاءِ هَذَا الْحُكْمِ، فَرَوَى سَعِيدٌ وَمَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:٥] ، وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ مِثْلُهُ. وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ وَعُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} قَالَ: نَسَخَتْهَا {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلَى قَوْلِهِ {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:٢٩] وَقَالَ آخَرُونَ: "لَا نَسْخَ فِيهَا لِأَنَّهَا فِي مُوَادَعَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وقَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:٥] فِي عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: "قَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاهَدَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ أَصْنَافًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ، مِنْهُمْ النَّضِيرُ وَبَنُو قَيْنُقَاعَ وَقُرَيْظَةُ، وَعَاهَدَ قَبَائِلَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ هُدْنَةُ الْحُدَيْبِيَةِ إلَى أَنْ نَقَضَتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ الْعَهْدَ بِقِتَالِهَا خُزَاعَةَ حُلَفَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" وَلَمْ يَخْتَلِفْ نَقَلَةُ السِّيَرِ وَالْمَغَازِي فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَكْثُرَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ وَيَقْوَى أَهْلُهُ، فَلَمَّا كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ وَقَوِيَ الدِّينُ أَمَرَ بِقَتْلِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامَ أَوْ السَّيْفَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:٥] وَأَمَرَ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا باليوم الآخر} إلَى قَوْلِهِ {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:٢٩] وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ سُورَةَ بَرَاءَةَ مِنْ أَوَاخِرِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ، وَكَانَ نُزُولُهَا حِينَ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْحَجِّ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ، وَسُورَةُ الْأَنْفَالِ نَزَلَتْ عَقِيبَ يَوْمِ بَدْرٍ بَيَّنَ فِيهَا حُكْمَ الْأَنْفَالِ وَالْغَنَائِمِ وَالْعُهُودِ وَالْمُوَادَعَاتِ، فَحُكْمُ سُورَةِ بَرَاءَةَ مُسْتَعْمَلٌ عَلَى مَا وَرَدَ وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمُسَالَمَةِ إذَا مَالَ الْمُشْرِكُونَ إلَيْهَا حُكْمٌ ثَابِتٌ أَيْضًا. وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ حُكْمُ الْآيَتَيْنِ لِاخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ، فَالْحَالُ الَّتِي أَمَرَ فِيهَا بِالْمُسَالَمَةِ هِيَ حَالُ قِلَّةِ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ وَكَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ، وَالْحَالُ الَّتِي أَمَرَ فِيهَا بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ وَبِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ هِيَ حَالُ كَثْرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَقُوَّتِهِمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} [محمد:٣٥] فَنَهَى عَنْ الْمُسَالَمَةِ عِنْدَ الْقُوَّةِ عَلَى قَهْرِ الْعَدُوِّ وَقَتْلِهِمْ; وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا قَدَرَ بَعْضُ أَهْلِ الثُّغُورِ عَلَى قِتَالِ الْعَدُوِّ وَمُقَاوَمَتِهِمْ لَمْ تَجُزْ لَهُمْ مُسَالَمَتُهُمْ وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ إقْرَارُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ إلَّا بِالْجِزْيَةِ، وَإِنْ ضَعُفُوا عَنْ قِتَالِهِمْ جَازَ لَهُمْ مُسَالَمَتُهُمْ كَمَا سَالَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا مِنْ أَصْنَافِ الْكُفَّارِ وَهَادَنَهُمْ عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ مِنْ غَيْرِ جِزْيَةٍ أَخَذَهَا مِنْهُمْ; قَالُوا: فَإِنْ قَوُوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى قِتَالِهِمْ نَبَذُوا

<<  <  ج: ص:  >  >>