للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَدْ قِيلَ: فِي جَوَازِ نَقْضِ الْعَهْدِ قَبْلَ مُضِيِّ مُدَّتِهِ عَلَى جِهَةِ النَّبْذِ إلَيْهِمْ، وَإِعْلَامِهِمْ نَصْبَ الْحَرْبِ وَزَوَالَ الْأَمَانِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَخَافَ غَدْرَهُمْ وَخِيَانَتَهُمْ، وَالْآخَرُ: أَنْ يَثْبُتَ غَدْرُهُمْ سِرًّا فَيَنْبِذَ إلَيْهِمْ ظَاهِرًا، وَالْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ فِي شَرْطِ الْعَهْدِ أَنْ يُقِرَّهُمْ عَلَى الْأَمَانِ مَا يَشَاءُ وَيَنْقُضَهُ مَتَى يَشَاءُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ لِأَهْلِ خَيْبَرَ: "أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ" الْآخَرُ: أَنَّ الْعَهْدَ الْمَشْرُوطَ إلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ فِيهِ ثُبُوتُ الْأَمَانِ مِنْ حَرْبِهِمْ وَقِتَالِهِمْ مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِمْ، وَأَنْ لَا يُقْصَدُوا وَهُمْ غَارُّونَ، وَأَنَّهُ مَتَى أَعْلَمَهُمْ رَفْعَ الْأَمَانِ مِنْ حَرْبِهِمْ فَذَلِكَ جَائِزٌ لَهُمْ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ فِي مَضْمُونِ الْعَهْدِ، وَسَوَاءٌ خَافَ غَدْرَهُمْ أَوْ لَمْ يَخَفْ أَوْ كَانَ فِي شَرْطِ الْعَهْدِ أَنَّ لَنَا نَقْضَهُ مَتَى شِئْنَا أَوْ لَمْ يَكُنْ فَإِنَّ لَنَا مَتَى رَأَيْنَا ذَلِكَ حَظًّا لِلْإِسْلَامِ أَنْ نَنْبِذَ إلَيْهِمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِغَدْرٍ مِنَّا وَلَا خِيَانَةٍ وَلَا خَفْرٍ لِلْعَهْدِ; لِأَنَّ خَفْرَ الْأَمَانِ وَالْعَهْدِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَعْدَ الْأَمَانِ، وَهُمْ غَارُّونَ بِأَمَانِنَا، فَأَمَّا مَتَى نَبَذْنَا إلَيْهِمْ فَقَدْ زَالَ الْأَمَانُ، وَعَادُوا حَرْبًا، وَلَا يُحْتَاجُ إلَى رِضَاهُمْ فِي نَبْذِ الْأَمَانِ إلَيْهِمْ; وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا إنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُهَادِنَ الْعَدُوَّ إذَا لَمْ تَكُنْ بِالْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ عَلَى قِتَالِهِمْ، فَإِنْ قَوِيَ الْمُسْلِمُونَ وَأَطَاقُوا قِتَالَهُمْ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ وَيُقَاتِلَهُمْ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ فِيهِ صَلَاحٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَهُ. وَلَيْسَ جَوَازُ رَفْعِ الْأَمَانِ مَوْقُوفًا عَلَى خَوْفِ الْغَدْرِ وَالْخِيَانَةِ مِنْ قِبَلِهِمْ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمَ هِيَ رَجَبٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ إلَى آخِرِ الْمُحَرَّمِ. وَقَدْ كَانَتْ سُورَةُ بَرَاءَةٌ نَزَلَتْ حِينَ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْحَجِّ، وَكَانَ الْحَجُّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ; فَكَأَنَّهُمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إنَّمَا بَقِيَ عَهْدُهُمْ إلَى آخِرِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ الَّتِي هِيَ أَشْهُرُ الْحُرُمِ. وَقَدْ رَوَى جَرِيرٌ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ الْمُحَرَّرِ بْن أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْت مَعَ عَلِيٍّ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَرَاءَةٌ إلَى الْمُشْرِكِينَ، فَكُنْت أُنَادِي حَتَّى صَحِلَ صَوْتِي، وَكَانَ أَمَرَنَا أَنْ نَقُولَ: "لَا يَحُجَّنَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا مُؤْمِنٌ، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ عَهْدٌ فَأَجَلُهُ إلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا مَضَتْ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرِ فَإِنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ". وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرِ مِنْ وَقْتِ نِدَائِهِ، وَإِعْلَامِهِمْ إيَّاهُ، وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهَا تَمَامَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَقَدْ رَوَى سُفْيَانُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ زَيْدِ بْنِ يَثِيعَ عَنْ عَلَى: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنْ لَا يَطُوفَ أَحَدٌ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا، وَلَا يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَلَا يَحُجَّ مُشْرِكٌ بَعْدَ عَامِهِ هَذَا، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ عَهْدٌ فَأَجَلُهُ إلَى مُدَّتِهِ; فَجَعَلَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ مَنْ لَهُ عَهْدٌ عَهْدُهُ إلَى أَجَلِهِ، وَلَمْ يُخَصِّصْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مِنْ غَيْرِهِ، وَقَالَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَعَهْدُهُ إلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَيَانِ صَحِيحَيْنِ، وَأَنْ يَكُونَ جَعَلَ أَجَلَ بَعْضِهِمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ تَمَامَ

<<  <  ج: ص:  >  >>