للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

"فَإِذَا انْقَضَتْ السَّنَةُ لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ"؟ لِأَنَّ دُخُولَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ يُوجِبُ جِزْيَةً أُخْرَى، فَإِذَا اجْتَمَعَتَا سَقَطَتْ إحْدَاهُمَا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: "اجْتِمَاعُهُمَا لَا يُسْقِطُ إحْدَاهُمَا".

وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْجِزْيَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ لِإِقَامَتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ مَعَ كَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، وَحَقُّ الْأَخْذِ فِيهَا إلَى الْإِمَامِ، فَأَشْبَهَتْ الْحُدُودَ، إذْ كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً فِي الْأَصْلِ عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ، وَحَقُّ الْأَخْذِ إلَى الْإِمَامِ، فَلَمَّا كَانَ اجْتِمَاعُ الْحُدُودِ مِنْ جِنْسٍ، وَاحِدٍ يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِثْلَ أَنْ يَزْنِيَ مِرَارًا أَوْ يَسْرِقَ مِرَارًا ثُمَّ يُرْفَعُ إلَى الْإِمَامِ فَلَا يَجِبُ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ بِجَمِيعِ الْأَفْعَالِ، كَذَلِكَ حُكْمُ الْجِزْيَةِ إذْ كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ بَلْ هِيَ أَخَفُّ أَمْرًا، وَأَضْعَفُ حَالًا مِنْ الْحُدُودِ; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا أَنَّ إسْلَامَهُ يُسْقِطُهَا، وَلَا تَسْقُطُ الْحُدُودُ بِالْإِسْلَامِ.

فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ ذَلِكَ دَيْنًا، وَحَقًّا فِي مَالِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُسْقِطْهُ اجْتِمَاعُهُ، كَالدُّيُونِ وَخَرَاجِ الْأَرَضِينَ. قِيلَ: لَهُ: خَرَاجُ الْأَرَضِينَ لَيْسَ بِصَغَارٍ وَلَا عُقُوبَةٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَالْجِزْيَةُ لَا تُؤْخَذُ مِنْ مُسْلِمٍ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ طَاوُسٍ، وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلِ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: "إذَا تَدَارَكَتْ صَدَقَاتٌ فَلَا تُؤْخَذُ الْأُولَى كَالْجِزْيَةِ".

وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الذِّمِّيِّ إذَا أَسْلَمَ، وَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ جِزْيَةٌ هَلْ يُؤْخَذُ بِهَا؟ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "لَا يُؤْخَذُ"، وَهُوَ قَوْلُ مَالِك وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ وَالشَّافِعِيُّ: "إذَا أَسْلَمَ فِي بَعْضِ السَّنَةِ أُخِذَ مِنْهُ بِحِسَابِ ذَلِكَ". وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ يُسْقِطُ مَا وَجَبَ مِنْ الْجِزْيَةِ قَوْله تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} إلَى قَوْلِهِ: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} فَانْتَظَمَتْ هَذِهِ الْآيَةِ الدَّلَالَةُ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا أَحَدُهُمَا: الْأَمْرُ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِمَّنْ يَجِبُ قِتَالُهُ لِإِقَامَتِهِ عَلَى الْكُفْرِ إنْ لَمْ يُؤَدِّهَا، وَمَتَى أَسْلَمَ لَمْ يَجِبْ قِتَالُهُ فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} فَأَمَرَ بِأَخْذِهَا مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الصَّغَارِ وَالذِّلَّةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ بَعْدَ الْإِسْلَامِ إذْ غَيْرُ مُمْكِنٍ أَخْذُهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَمَتَى أَخَذْنَاهَا عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ لَمْ تَكُنْ جِزْيَةٌ لِأَنَّ الْجِزْيَةَ هِيَ مَا أُخِذَ عَلَى وَجْهِ الصَّغَارِ. وَقَدْ رَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ قَابُوسَ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ عَلَى مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ" فَنَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْذَهَا مِنْ الْمُسْلِمِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي حَالِ الْكُفْرِ، وَبَيْنَ مَا لَمْ يَجِبْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَوَجَبَ بِظَاهِرِ ذَلِكَ إسْقَاطُ الْجِزْيَةِ عَنْهُ بِالْإِسْلَامِ. وَيَدُلُّ عَلَى سُقُوطِهَا أَنَّ الْجِزْيَةَ، وَالْجَزَاءَ وَاحِدٌ، وَمَعْنَاهُ جَزَاءُ الْإِقَامَةِ عَلَى الْكُفْرِ مِمَّنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، فَمَتَى أَسْلَمَ سَقَطَ عَنْهُ بِالْإِسْلَامِ الْمُجَازَاةُ عَلَى الْكُفْرِ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ عِقَابُ التَّائِبِ فِي حَالِ الْمُهْلَةِ، وَبَقَاءِ التَّكْلِيفِ;

<<  <  ج: ص:  >  >>