النَّجَاةَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ بِهِ وَبِالْإِيمَانِ، وَالْعَذَابُ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ، وَقَالَ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:٢١٦] وَمَعْنَاهُ: فُرِضَ، كَقَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:١٨٣] . فَإِنْ قِيلَ هُوَ كَقَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة:١٨٠] وَإِنَّمَا هِيَ نَدْبٌ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ. قِيلَ لَهُ: قَدْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةً بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ قَبْلَ فَرْضِ اللَّهِ الْمَوَارِيثَ، ثُمَّ نُسِخَتْ بَعْدَ الْمِيرَاثِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ فِي حُكْمِ اللَّفْظِ الْإِيجَابَ إلَّا أَنْ تَقُومَ دَلَالَةٌ لِلنَّدْبِ، وَلَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ فِي الْجِهَادِ أَنَّهُ نَدْبٌ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَكَّدَ اللَّهُ تَعَالَى فَرْضَ الْجِهَادِ عَلَى سَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَبِغَيْرِهَا عَلَى حَسَبِ الْإِمْكَانِ، فَقَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:٨٤] فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ فَرَضَ الْجِهَادِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِنَفْسِهِ، وَمُبَاشَرَةِ الْقِتَالِ وَحُضُورِهِ، وَالْآخَرُ: بِالتَّحْرِيضِ وَالْحَثِّ وَالْبَيَانِ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَلَمْ يَذْكُرْ فِيمَا فَرَضَهُ عَلَيْهِ إنْفَاقَ الْمَالِ، وَقَالَ لِغَيْرِهِ: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} فَأَلْزَمَ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ وَلَهُ مَالٌ فَرْضَ الْجِهَادِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} فَلَمْ يَخْلُ مَنْ أَسْقَطَ عَنْهُ فَرْضَ الْجِهَادِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ لِلْعَجْزِ وَالْعُدْمِ مِنْ إيجَابِ فَرْضِهِ بِالنُّصْحِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ إلَّا وَعَلَيْهِ فَرْضُ الْجِهَادِ عَلَى مَرَاتِبِهِ الَّتِي وَصَفْنَا.
وَقَدْ رُوِيَ فِي تَأْكِيدِ فَرْضِهِ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ، فَمِنْهَا مَا حُدِّثْنَا عَنْ عَمْرِو بْنِ حَفْصٍ السَّدُوسِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ عَنْ جَبَلَةَ بْنِ سُحَيْمٍ عَنْ مُؤْثِرِ بْنِ عَفَازَةَ عَنْ بَشِيرِ ابْنِ الْخَصَاصِيَةِ قَالَ: أَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُبَايِعُهُ فَقُلْت لَهُ: عَلَامَ تُبَايِعُنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَمَدَّ رَسُولُ اللَّهِ يَدَهُ فَقَالَ: "عَلَى أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَتُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ الْمَكْتُوبَاتِ لِوَقْتِهِنَّ وَتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ وَتُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَلًّا لَا أُطِيقُ إلَّا اثْنَتَيْنِ إيتَاءُ الزَّكَاةِ فَمَا لِي إلَّا حُمُولَةَ أَهْلِي، وَمَا يَقُومُونَ بِهِ، وَأَمَّا الْجِهَادُ فَإِنِّي رَجُلٌ جَبَانٌ فَأَخَافُ أَنْ تَخْشَعَ نَفْسِي فَأَفِرَّ فَأَبُوءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ; فَقَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ، وَقَالَ: "يَا بَشِيرُ لَا جِهَادَ وَلَا صدقة فبما تَدْخُلُ الْجَنَّةَ؟ " فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ اُبْسُطْ يَدَك فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعْته عَلَيْهِنَّ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إبراهيم بن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute