للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَهُمْ} إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ لِمَ فَعَلْت مَا جَعَلْت لَك فِعْلَهُ؟ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ لِمَ فَعَلْت مَا أَمَرْتُك بِفِعْلِهِ؟ قَالُوا: فَغَيْرُ جَائِزٍ إطْلَاقُ الْعَفْوِ عَمَّا قَدْ جَعَلَ لَهُ فِعْلَهُ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ مَا أَمَرَهُ بِهِ. وَقِيلَ: إنَّهُ جَائِزٌ أَنْ لَا تَكُونَ مِنْهُ مَعْصِيَةٌ فِي الْإِذْنِ لَهُمْ لَا صَغِيرَةٌ وَلَا كَبِيرَةٌ، وَإِنَّمَا عَاتَبَهُ بِأَنْ قَالَ: لِمَ فَعَلْت مَا جَعَلْت لَك فِعْلَهُ مِمَّا غَيْرُهُ أَوْلَى مِنْهُ؟ إذْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا بَيْنَ فِعْلَيْنِ، وَأَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} [النور:٦٠] فَأَبَاحَ الْأَمْرَيْنِ وَجَعَلَ أَحَدَهُمَا أَوْلَى، وَقَدْ رَوَى شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} : كَانَتْ كَمَا تَسْمَعُونَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي سُورَةِ النُّورِ: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} إلَى قَوْلِهِ: {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور:٦٢] فَجَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى رُخْصَةً فِي ذَلِكَ. وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عباس فِي قَوْلِهِ: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} إلى قوله: {يَتَرَدَّدُونَ} : هَذَا بِعَيْنِهِ لِلْمُنَافِقِينَ حِينَ اسْتَأْذَنُوهُ لِلْقُعُودِ عَنْ الْجِهَادِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَعَذَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} . وَرَوَى عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} قَالَ: "نَسَخَهَا قَوْلُهُ: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} إلَى قَوْلِهِ: {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور:٦٢] فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِأَعْلَى النَّظَرَيْنِ.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} فِي قَوْمٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ لَحِقَتْهُمْ تُهْمَةٌ، فَكَانَ يُمْكِنُ النَّبِيَّ اسْتِبْرَاءُ أَمْرِهِمْ بِتَرْكِ الْإِذْنِ لَهُمْ، فَيَظْهَرُ نِفَاقُهُمْ إذَا لَمْ يَخْرُجُوا بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْخُرُوجِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ حُكْمًا ثَابِتًا فِي أُولَئِكَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} وَيَكُونُ قَوْلُهُ: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور:٦٢] وَقَوْلُهُ: {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور:٦٢] فِي الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ لَمْ يَذْهَبُوا، فَلَا تَكُونُ إحْدَى الْآيَتَيْنِ نَاسِخَةً لِلْأُخْرَى.

قَوْله تَعَالَى: {لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلى قوله: {بِأَمْوَالِهِمْ} الْآيَةَ. يَعْنِي: لَا يَسْتَأْذِنُك الْمُؤْمِنُونَ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ الْجِهَادِ لَأَنْ لَا يُجَاهِدُوا وَأَضْمَرَ "لَا" في قوله: {ِأَنْ يُجَاهِدُوا} لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِئْذَانَ فِي التَّخَلُّفِ كَانَ مَحْظُورًا عَلَيْهِمْ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} عَلَى أَنَّهُ عَفْوٌ عَنْ ذَنْبٍ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا، وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {أَنْ يُجَاهِدُوا} أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ كَرَاهَةِ أَنْ يُجَاهِدُوا، وَهُوَ يُؤَوَّلُ إلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ إضْمَارَ "لَا" فِيهِ وَإِضْمَارَ الْكَرَاهَةِ سَوَاءٌ.

<<  <  ج: ص:  >  >>