للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ} مَعْنَاهُ: فَحَلَقَ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ. قِيلَ لَهُ: الْحَلْقُ غَيْرُ مَذْكُورٍ وَإِنْ كَانَ مُرَادًا، وَكَذَلِكَ اللُّبْسُ وَتَغْطِيَةُ الرَّأْسِ، كُلُّ ذَلِكَ غَيْرُ مَذْكُورٍ وَهُوَ مُرَادٌ لِأَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ اسْتِبَاحَةُ مَا يَحْظُرُهُ الْإِحْرَامُ لِلْعُذْرِ. وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَرِيضًا وَكَانَ بِهِ أَذًى فِي بَدَنِهِ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى حَلْقِ الشَّعْرِ كَانَ فِي حُكْمِ الرَّأْسِ فِي بَابِ الْفِدْيَةِ; إذْ كَانَ الْمَعْنَى مَعْقُولًا فِي الْجَمِيعِ وَهُوَ اسْتِبَاحَةُ مَا يَحْظُرُهُ الْإِحْرَامُ فِي حَالِ الْعُذْرِ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامِ فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ; وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةِ السَّلَفِ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ إلَّا شَيْءٌ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ أَنَّ الصِّيَامَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ كَصِيَامِ الْمُتْعَةِ. وَأَمَّا الصَّدَقَةُ فَإِنَّهُ رُوِيَ فِي مِقْدَارِهَا عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِوَايَاتٌ مُخْتَلِفَةُ الظَّاهِرِ، فَمِنْهَا مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أحمد بن سهل بن أيوب قال: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنَ بْنُ الْأَصْبَهَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلً أَنَّ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةٍ حَدَّثَهُ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْرِمًا فَقَمِلَ رَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا بِحَلَّاقٍ فَحَلَقَ رَأْسَهُ وَقَالَ: "هَلْ تَجِدُ نُسُكًا؟ " قَالَ: مَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ يُطْعِمَ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ صَاعًا، وَأَنْزَلَ اللَّهُ: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً، وَرَوَاهُ صَالِحٌ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ بِمِثْلِ ذَلِكَ. وَرَوَى دَاوُد بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ عَامِرٍ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ وَقَالَ فِيهِ: "تَصَدَّقَ بِثَلَاثَةِ آصُعٍ مِنْ تَمْرٍ بَيْنَ كُلِّ مِسْكِينَيْنِ صَاعٌ". وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنَ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: "اُنْسُكْ نَسِيكَةً أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَطْعِمْ ثَلَاثَةَ آصُعٍ مِنْ طَعَامٍ لِسِتَّةِ مَسَاكِينَ". فَذَكَرَ فِي الْخَبَرِ الْأَوَّلِ ثَلَاثَةَ آصُعٍ مِنْ تَمْرٍ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ، وَفِي خَبَرٍ سِتَّةُ آصُعٍ، وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةً. ثُمَّ قَوْلُهُ: "ثَلَاثَةُ آصُعٍ مِنْ طَعَامٍ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ" يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْحِنْطَةَ; لِأَنَّ هَذَا ظَاهِرُهُ وَالْمُعْتَادُ الْمُتَعَارَفُ مِنْهُ، فَيَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مِنْ التَّمْرِ سِتَّةُ آصُعٍ وَمِنْ الْحِنْطَةِ ثَلَاثَةُ آصُعٍ عَدَدُ الْمَسَاكِينَ الَّذِينَ يَتَصَدَّقُ عَلَيْهِمْ سِتَّةٌ بِلَا خِلَافٍ.

وَأَمَّا النُّسُكُ فَإِنَّ فِي أَخْبَارِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يَنْسُكَ نَسِيكَةً، وَفِي بَعْضِهَا شَاةٌ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ أَدْنَاهُ شَاةً وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُ بَعِيرًا أَوْ بَقَرَةً، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ مُخَيَّرُ بَيْنِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ يَبْتَدِئُ بِأَيِّهَا شَاءَ، وَذَلِكَ مُقْتَضَى الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} وَأَوْ لِلتَّخْيِيرِ هَذَا حَقِيقَتُهَا وَبَابُهَا، إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى غَيْرِ هَذَا فِي الْإِثْبَاتِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>