للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَإِنْ قِيلَ: قَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ الْأَمْرَ بِإِحْرَامِ الْحَجِّ أَوْ أَفْعَالِهِ فِيهَا، فَغَيْرُ جَائِزٍ فِعْلُهَا فِي غَيْرِهَا.

قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ دَلَالَةٌ عَلَى الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِهِ فِيهَا، فَأَمَّا الْإِيجَابُ فَلَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ مِنْ اللَّفْظِ; وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَكْثَرُ مَا فِيهِ تَجْوِيزُ إحْرَامِ الْحَجِّ وَأَفْعَالِهِ فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ، وَلَيْسَ فِيهِ نَفْيٌ لِجَوَازِهِ فِي غَيْرِهَا.

فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الْإِحْرَامُ جَائِزًا فِي سَائِرِ السَّنَةِ فَلَا مَعْنَى لِتَوْقِيتِ الْأَشْهُرِ لَهُ. وَهَذَا الْمَذْهَبُ يُؤَدِّي إلَى إسْقَاطِ فَائِدَةِ التَّوْقِيتِ.

قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ فِيهِ عِدَّةُ فَوَائِدَ، مِنْهَا: أَنَّهُ أَفَادَ أَنَّ أَفْعَالَ الْحَجِّ مَخْصُوصَةٌ بِهَذِهِ الْأَشْهُرِ، أَلَا تَرَى أَنَّا نَقُولُ إنَّهُ لَوْ كَانَ طَافَ وَسَعَى قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ وَيُعِيدُهُ؟ وَمِنْهَا: أَنَّ التَّمَتُّعَ إنَّمَا يَتَعَلَّقَ حُكْمُهُ بِفِعْلِ الْعُمْرَةِ مَعَ الْحَجِّ فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ، حَتَّى لَوْ قَدَّمَ طَوَافَ الْعُمْرَةِ عَلَى أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا، وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَرَنَ وَدَخَلَ مَكَّةَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَطَافَ لِلْعُمْرَةِ وَسَعَى وَمَضَى عَلَى قِرَانِهِ إنَّهُ لَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ فَأَفَادَتْ الْآيَةُ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْهُرَ هِيَ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمُ التَّمَتُّعِ إذَا جَمَعَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ فِيهَا. وَمَعَ ذَلِكَ فَلَوْ كَانَ قَوْله تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ بِهِ عَلَيْهَا دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الشُّهُورِ، لَوَجَبَ أَنْ نَصْرِفَهُ إلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ دُونَ إحْرَامِهِ لِيَسْلَمَ لَنَا عُمُومُ قَوْلِهِ: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} فِي جَوَازِ الْإِحْرَامِ فِي سَائِرِ الْأَهِلَّةِ، وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْإِحْرَامِ لَأَدَّى ذَلِكَ إلَى إسْقَاطِ فَائِدَةِ قَوْلِهِ: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} وَالِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا نَكُونُ مُسْتَعْمِلِينَ لَهُ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ جَعَلَ الْأَهِلَّةَ وَقْتًا لِلْحَجِّ، وَمَتَى قَصَرْنَاهُ عَلَى أَشْهُرِ الْحَجِّ لَمْ يَتَعَلَّقْ حُكْمُهُ بِالْأَهِلَّةِ وَكَانَ مُتَعَلِّقًا بِأَوْقَاتٍ أُخَرَ غَيْرِهَا، مِثْلُ يَوْمُ عَرَفَةَ لِلْوُقُوفِ وَيَوْمُ النَّحْرِ لِلطَّوَافِ وَالرَّمْيِ وَنَحْوِهِ. وَأَيْضًا فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُرِيدَ الْإِحْرَامَ وَأَفْعَالَهُ، وَمَتَى أَرَادَ الْأَفْعَالَ انْتَفَى الْإِحْرَامُ لِامْتِنَاعِ إرَادَتِهِمَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ; لِأَنَّ أَحَدَهُمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِعَيْنِهِ وَهُوَ أَفْعَالُ الْمَنَاسِكِ وَالْآخَرُ سَبَبٌ لَهُ سُمِّيَ بِاسْمِهِ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُرَادَا جَمِيعًا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ; أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ وَلَمْ يَقِفْ فَجَائِزٌ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ لَمْ يَحُجَّ وَمَتَى وَقَفَ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْحَاجِّ؟ وَأَيْضًا لَمَّا قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْحَجُّ عَرَفَةَ" وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَعْرِيفًا لِلْحَجِّ المذكور في قوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} فَتَكُونَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِتَعْرِيفِ الْمَعْهُودِ، فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ تَقْدِيرُ الْآيَةِ مَعَ الْخَبَرِ: الْحَجُّ الَّذِي هُوَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ فِي أَشْهُرٍ مَعْلُومَاتٍ وَيَكُونُ فَائِدَةُ ذِكْرِ الْأَشْهُرِ مَا قَدَّمْنَا. وَأَيْضًا لَوْ صَحَّ إرَادَةُ الْوَقْتِ لِلْإِحْرَامِ وَجَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْأَشْهُرِ عَلَى النَّدْبِ وَقَوْلُهُ: {مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} عَلَى الْجَوَازِ، حَتَّى يُوَفَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ اللَّفْظَيْنِ حَظَّهُ مِنْ الْفَائِدَةِ وَقِسْطَهُ مِنْ الْحُكْمِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>