للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْعِقَابِ الْمُسْتَحَقِّ بِارْتِكَابِهَا. فَذِكْرُهُ لِمَنَافِعِهَا غَيْرُ دَالٍّ عَلَى إبَاحَتِهَا لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَكَّدَ حَظْرَهَا مَعَ ذِكْرِ مَنَافِعِهَا بِقَوْلِهِ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} يَعْنِي أَنَّ مَا يُسْتَحَقُّ بِهِمَا مِنْ الْعِقَابِ أَعْظَمُ مِنْ النَّفْعِ الْعَاجِلِ الَّذِي يَنْبَغِي مِنْهُمَا.

وَمِمَّا نَزَلَ فِي شَأْنِ الْخَمْرِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: ٤٣] .

وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ مَا لَمْ يُسْكِرْ مِنْهَا، وَفِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى تَحْرِيمِ مَا يُسْكِرُ مِنْهَا; لِأَنَّهُ إذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ فَرْضًا نَحْنُ مَأْمُورُونَ بِفِعْلِهَا فِي أَوْقَاتِهَا، فَكُلُّ مَا أَدَّى إلَى الْمَنْعِ مِنْهَا فَهُوَ مَحْظُورٌ، فَإِذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ مَمْنُوعَةً فِي حَالِ السُّكْرِ وَكَانَ شُرْبُهَا مُؤَدِّيًا إلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ، كَانَ مَحْظُورًا; لِأَنَّ فِعْلَ مَا يَمْنَعُ مِنْ الْفَرْضِ مَحْظُورٌ.

وَمِمَّا نَزَلَ فِي شَأْنِ الْخَمْرِ مِمَّا لَا مَسَاغَ لِلتَّأْوِيلِ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: ٩٠] إلَى قَوْلِهِ: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: ٩١] فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ ذِكْرَ تَحْرِيمِهَا مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا قَوْلُهُ: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: ٩١] وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ إطْلَاقُهُ إلَّا فِيمَا كَانَ مَحْظُورًا مُحَرَّمًا، ثُمَّ أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: ٩١] وَذَلِكَ أَمْرٌ يَقْتَضِي لُزُومَ اجْتِنَابِهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: ٩١] وَمَعْنَاهُ: فَانْتَهُوا.

فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ فِي قوله تعالى: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} دَلَالَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْقَلِيلِ مِنْهَا; لِأَنَّ مُرَادَ الْآيَةِ مَا يَلْحَقُ مِنْ الْمَأْثَمِ بِالسُّكْرِ وَتَرْكِ الصَّلَاةِ، وَالْمُوَاثَبَةِ، وَالْقِتَال، فَإِذَا حَصَلَ الْمَأْثَمُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ فَقَدْ وَفَّيْنَا ظَاهِرَ الْآيَةِ مُقْتَضَاهَا مِنْ التَّحْرِيمِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى تَحْرِيمِ الْقَلِيلِ مِنْهَا. قِيلَ لَهُ: مَعْلُومٌ أَنَّ فِي مَضْمُونِ قوله: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} ضَمِيرُ شُرْبِهَا; لِأَنَّ جِسْمَ الْخَمْرِ هُوَ فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا مَأْثَمَ فِيهَا، وَإِنَّمَا الْمَأْثَمُ مُسْتَحَقٌّ بِأَفْعَالِنَا فِيهَا، فَإِذَا كَانَ الشُّرْبُ مُضْمَرًا كَانَ تَقْدِيرُهُ: فِي شُرْبِهَا وَفِعْلِ الْمَيْسِرِ إثْمٌ كَبِيرٌ، فَيَتَنَاوَلُ ذَلِكَ شُرْبَ الْقَلِيلِ مِنْهَا، وَالْكَثِيرِ، كَمَا لَوْ قَالَ: حَرَّمْتُ الْخَمْرَ لَكَانَ مَعْقُولًا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ شُرْبُهَا، وَالِانْتِفَاعُ بِهَا، فَيَقْتَضِي ذَلِكَ تَحْرِيمَ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا. وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ; حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} قَالَ: الْمَيْسِرُ: هُوَ الْقِمَارُ، كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّة يُخَاطِرُ عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ. قَالَ: وقَوْله تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: ٤٣] قَالَ: "كَانُوا لَا يَشْرَبُونَهَا عِنْدَ الصَّلَاةِ، فَإِذَا

<<  <  ج: ص:  >  >>