للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رَآهُمْ عَلَى حَالِ الِاسْتِقَامَةِ وَالْبَصَائِرِ الصَّحِيحَةِ وَالْحِرْصِ عَلَى جِهَادِ الْكُفَّارِ خَشِيَ عَلَيْهِمْ الْفِتْنَةَ، وَكَانَتْ بِلَادُ الشَّامِ بِلَادَ الطَّاعُونِ مَشْهُورٌ ذَلِكَ بِهَا، أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُمْ عَلَى الْحَالِ الَّتِي خَرَجُوا عَلَيْهَا قَبْل أَنْ يَفْتَتِنُوا بِالدُّنْيَا وَزَهْرَتِهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: قَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "فَنَاءُ أُمَّتِي بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ" يَعْنِي عِظَمَ الصَّحَابَةِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهِ سَيَفْتَحُ الْبِلَادَ بِمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ، فَرَجَا أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَ عَنْ حَالِهِمْ; وَلِذَلِكَ لَمْ يُحِبَّ أَبُو عُبَيْدَةَ الْخُرُوجَ مِنْ الشَّامِ. وَقَالَ مُعَاذٌ: لَمَّا وَقَعَ الطَّاعُونُ بِالشَّامِ وَهُوَ بِهَا قَالَ: اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا حَظًّا مِنْهُ وَلَمَّا طُعِنَ فِي كَفِّهِ أَخَذَ يُقَبِّلُهَا وَيَقُولُ: مَا يَسُرُّنِي بِهَا كَذَا وَكَذَا وَقَالَ: لَئِنْ كُنْت صَغِيرًا فَرُبَّ صَغِيرٍ يُبَارِكُ اللَّهُ فِيهِ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا، يَتَمَنَّى الطَّاعُونَ لِيَكُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّفَةِ الَّتِي وَصَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا أُمَّتَهُ الَّذِينَ يَفْتَحُ اللَّهُ بِهِمْ الْبِلَادَ وَيُظْهِرُ بِهِمْ الْإِسْلَامَ.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ أَنْكَرَ عَذَابَ الْقَبْرِ وَزَعَمَ أَنَّهُ مِنْ الْقَوْلِ بِالتَّنَاسُخِ; لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَمَاتَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ، فَكَذَلِكَ يُحْيِيهِمْ فِي الْقَبْرِ وَيُعَذِّبُهُمْ إذَا اسْتَحَقُّوا ذَلِكَ.

وقَوْله تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} هُوَ أَمْرٌ بِالْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَهُوَ يُحْمَلُ; إذْ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ السَّبِيلِ الْمَأْمُورِ بِالْقِتَالِ فِيهِ، وَقَدْ بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ غَيْرِهِ، وَسَنَذْكُرُهُ إذَا انْتَهَيْنَا إلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وقَوْله تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} إنَّمَا هُوَ اسْتِدْعَاءٌ إلَى أَعْمَالِ الْبِرِّ وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ بِأَلْطَفِ الْكَلَامِ وَأَبْلَغِهِ; وَسَمَاهُ قَرْضًا تَأْكِيدًا لِاسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ بِهِ; إذْ لَا يَكُونُ قَرْضًا إلَّا وَالْعِوَضُ مُسْتَحَقٌّ بِهِ. وَجَهِلَتْ الْيَهُودُ ذَلِكَ أَوْ تَجَاهَلَتْ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَقَالُوا: إنَّ اللَّهَ يَسْتَقْرِضُ مِنَّا، فَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ وَهُوَ فَقِيرٌ إلَيْنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: ١٨١] وَعَرَفَ الْمُسْلِمُونَ مَعْنَاهُ وَوَثِقُوا بِثَوَابِ اللَّهِ وَوَعْدِهِ وَبَادَرُوا إلَى الصَّدَقَاتِ; فَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ جَاءَ أَبُو الدَّحْدَاحُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَرَى رَبَّنَا يَسْتَقْرِضُ مِنَّا مِمَّا أَعْطَانَا لِأَنْفُسِنَا؟ وَإِنَّ لِي أَرْضَيْنِ إحْدَاهُمَا بِالْعَالِيَةِ وَالْأُخْرَى بِالسَّافِلَةِ فَإِنِّي قَدْ جَعَلْت خَيْرَهُمَا صَدَقَةً.

وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا} الْآيَةَ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَةَ لَيْسَتْ وِرَاثَةً لِإِنْكَارِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ مَا أَنْكَرُوهُ مِنْ التَّمْلِيكِ عَلَيْهِمْ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ النُّبُوَّةِ وَلَا الْمُلْكِ وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحَقٌّ بِالْعِلْمِ وَالْقُوَّةِ لَا بِالنَّسَبِ. وَدَلَّ ذَلِكَ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا حَظَّ لِلنَّسَبِ مَعَ الْعِلْمِ وَفَضَائِلِ النَّفْسِ وَأَنَّهَا مُقَدَّمَةٌ عَلَيْهِ; لِأَنَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>