للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقَوْله تَعَالَى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} يُحْتَجُّ بِهِ فِي نَفْيِ الْحَجْرِ وَامْتِنَاعِ تَصَرُّفِ أَحَدٍ مِنْ قَاضٍ أَوْ غَيْرِهِ عَلَى سِوَاهُ بِبَيْعِ مَالٍ أَوْ مَنْعِهِ مِنْهُ إلَّا مَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى خُصُوصِهِ. وَيُحْتَجُّ بِهِ فِي بُطْلَانِ مَذْهَبِ مَالِك بْنِ أَنَسٍ فِي أَنَّ مَنْ أَدَّى دَيْنَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ أَنَّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَيْهِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا جَعَلَ كَسْبَهُ لَهُ وَعَلَيْهِ وَمَنَعَ لُزُومَهُ غَيْرَهُ.

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قَدْ قِيلَ فِي مَعْنَى الْإِصْرِ إنَّهُ الثِّقْلُ. وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ يُقَالُ إنَّهُ الْعَطْفُ، وَمِنْهُ أَوَاصِرُ الرَّحِمِ; لِأَنَّهَا تَعْطِفُهُ عَلَيْهِ; وَالْوَاحِدُ آصِرَةٌ. وَالْمَأْصِرُ يُقَالُ إنَّهُ حَبْلٌ يُمَدُّ عَلَى طَرِيقٍ أَوْ نَهْرٍ تُحْبَسُ بِهِ الْمَارَّةُ وَيَعْطِفُونَ بِهِ عَنْ النُّفُوذِ لِيُؤْخَذَ مِنْهُمْ الْعُشُورُ وَالْمَكْسُ. وَالْمَعْنَى في قوله: {وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً} يُرِيدُ بِهِ عَهْدًا وَهُوَ الْأَمْرُ الَّذِي يَثْقُلُ; رُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ. وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: ٧٨] يَعْنِي مِنْ ضِيقٍ; وَقَوْلِهِ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة: ١٨٥] الْآيَةَ، وقَوْله تَعَالَى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: ٦] . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "جِئْتُكُمْ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ". وَرُوِيَ عَنْهُ "أَنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ". فَقَوْلُهُ: {وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً} يَعْنِي مِنْ ثِقَلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} وَهُوَ كَقَوْلِهِ: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: ١٥٧] وَهَذِهِ الْآيَةُ وَنَظَائِرُهَا يُحْتَجُّ بِهَا عَلَى نَفْيِ الْحَرَجِ وَالضِّيقِ وَالثِّقَلِ فِي كُلِّ أَمْرٍ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ وَسَوَّغُوا فِيهِ الِاجْتِهَادَ، فَالْمُوجِبُ لِلثِّقَلِ وَالضِّيقِ وَالْحَرَجِ مَحْجُوجٌ بِالْآيَةِ، نَحْوَ إيجَابِ النِّيَّةِ فِي الطَّهَارَةِ فِي إيجَابِ التَّرْتِيبِ فِيهَا وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ فِي نَفْيِ الضِّيقِ وَالْحَرَجِ يُجَوِّزُ لَنَا الِاحْتِجَاجَ بِالظَّوَاهِرِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا

قَوْله تَعَالَى: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَشْتَدُّ وَيَثْقُلُ مِنْ التَّكْلِيفِ كَنَحْوِ مَا كُلِّفَ بَنُو إسْرَائِيلَ أَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمْ; وَجَائِزٌ أَنْ يُعَبِّرَ بِمَا يَثْقُلُ أَنَّهُ لَا يُطِيقُهُ، كَقَوْلِك "مَا أُطِيقُ كَلَامَ فُلَانٍ وَلَا أَقْدِرُ أَنْ أَرَاهُ" وَلَا يُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْقُدْرَةِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ أَنَّهُ يَثْقُلُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْعَاجِزِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى كَلَامِهِ وَرُؤْيَتِهِ; لِبُعْدِهِ مِنْ قَلْبِهِ وَكَرَاهَتِهِ لِرُؤْيَتِهِ وَكَلَامِهِ. وَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} [الكهف: ١٠١] وَقَدْ كَانَتْ لَهُمْ أَسْمَاعٌ صَحِيحَةٌ، إلَّا أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ اسْتَثْقَلُوا اسْتِمَاعَهُ فَأَعْرَضُوا عَنْهُ وَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُحَمِّلْنَا مِنْ الْعَذَابِ مَا لَا نُطِيقُهُ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

تم الجزء الأول ويليه الجزء الثاني وأوله سورة آل عمران.

<<  <  ج: ص:  >  >>