[المقولة الثانية: موقف الإسلام من أنواع التقدم الحضاري]
بدراسة موقف الإسلام من أنواع التقدم الحضاري تبين لنا أن الإسلام قد تولى تحديد المرتبة العظمى، وإقامة معالمها، وإنارة سبيلها، ودعا الناس جميعًا إلى الأخذ بها، والانتفاع من ثمراتها العاجلات والآجلات.
ورسم للناس المنهاج القويم الذي يكفل لهم سبقًا عظيمًا في درجات المرتبة الوسطى، فأنزل لهم الشرائع والأحكام الكفيلة بأن تقيم لهم مجتمعًاإنسانيًّا فاضلًا، إذا التزموا بتطبيقها، وترك لهم مجالًا واسعًا للاستزادة من النظم الحضارية التي أذن لهم بأن يتابعوا تطويرها وتحسينها بحسب ما تقضي به مصالح معاشهم ورفاهيتهم، أما المرتبة الدنيا التي تحتوي على ما يخدم الجسد ويمتعه فقد أطلق الإسلام للناس مجالات الابتكار فيها والتحسين والتنافس، استجابة لدوافع غرائزهم وشهواتهم، ومختلف أنواع ميلهم النفسي إلى زينة الحياة الدنيا ما لم يتجاوزوا في شيء من ذلك بالاستعمال جانب الخير إلى جانب الشر. وحثهم في جانب كل ذلك على العمل والإتقان، والانتفاع من كل ما جعل بين أيديهم من كنوز وطاقات في الأرض وفي السماء.
وبذلك تكون الحضارة الإسلامية معنية بالبدء من القمة نظرًا إلى شرف الغاية التي توصل إليها المرتبة العليا من مراتب الحضارة الإنسانية، ثم توجه عنايتها البالغة إلى المرتبة الوسطى، ثم تنتقل بالناس إلى المرتبة الدنيا، وتأخذ بأيديهم، وتدفعهم للارتقاء في درجاتها بكل ما يستطيعون من قوة ابتكار وتحسين من التقدم الحضاري أوفى نصيب وأسماه، وذلك لأن الإسلام قد أحب للناس كل أنواع التقدم والرقي الحضاريين، إلا أنه باشر بنفسه الأهم فتولاه تداركًا لبني آدم حتى لا يطول أمدهم في الهمجية والانحراف والشتات، وتحقيقًا لحكمة الابتلاء التي يكمن فيها سر خلق الله الإنسان كائنًا ذا عقل وإرادة ومقدار من القدرة على التنفيذ، وهذه هي الشروط اللازمة للابتلاء.
أما المهم فقد تركه الإسلام للعمل الإنساني الذي يقوم على التطوير والتحسين والابتكار والتنافس، لإحراز السبق في شتى الميادين الحضارية.
وربما نلاحظ في أمم الأرض صورًا حضارية كثيرة، لكنها في معظم أحوالها لا تعدو درجات المرتبة الدنيا، وبعض درجات المرتبة الوسطى من مراتب الرقي الحضاري، وكثيرًا ما تصاب الإنسانية بويلات جسام نتيجة لسبق حضاري مادي مجرد عن حضارة خلقية ونفسية ذات سلوك فاضل، فيكون هذا