لما اعتمدت الحضارة الإسلامية على المعارف الحق واكتسابها عن طريق التعلم والتعليم، بالوسائل والطرق المنطقية السليمة، كان من الطبيعي فيها أن تذم طريقة التقليد الأعمى، وتنفر منها، وتوبخ ملتزميها، وتعلن أن هذه الطريقة هي طريقة الجاهلين، وطريقة الذين لا يعقلون، وأنى لهؤلاء أن يكونوا من المهتدين.
وللتقليد في حياة الإنسان قصة ذات وجهين:
الوجه الأول: وجه بصير، فيه منفعة للإنسان وخير.
الوجه الثاني: وجه أعمى تقوده العصبية المقيتة، أو تسوقه الرعونة الحمقاء.
أما البصير منهما فيختصر لصاحبه الزمن، إذ يعمل على امتصاص المعارف والعلوم الحق، التي سبقه إليها الكادحون في قرنه، أو في القرون الأولى، ويعمل على تقليدهم فيما توصلوا إليه من فضائل وخيرات حسان، وذلك بعد تمحيصها، والتبصر فيها، ونقدها نقدًا فكريًّا وتجريبيًّا. ومثلهم في ذلك كمثل تجار الجواهر الذين تتجمع لديهم أكوام مختلفة من كنوز البر والبحر، وهذه الأكوام قد عمل في جمعها واكتشافها ألوف مؤلفة من الغواصين والمنقبين الكادحين، فيضعون هذه الأكوام، ويمنحنونها حبة فحبة، فما وجدوه منها جوهرًا شريفًا حرصوا عليه واشتروه، وما وجدوه منها حسيسًا وضيعًا نفوه ورفضوا وتركوه لصاحبه.
فإذا كان التقليد على مثل هذه الصورة فهو تقليد بصير حكيم، وسبيل قريب من سبل جمع المعارف والفضائل والخيرات، ولئن كان هذا النوع من الاقتباس تليدًا في أول طريق البحث فإنه ليس تقليد بعد البحث والنقد والاختبار والتمحيص؛ لأنه التزام بالحق بعد معرفته، سواء كان ملتزمه صاحب ابتكار له أم اكتشاف، أم كان غيره هو المبتكر أو المكتشف له، ولكنه نظر فيه فاستحسنه ووجده حقًّا فالتزمه.
وأما الوجه الأعمى للتقليد، فهو إحدى المصائب الكبرى التي تنحرف بها عن الحق معظم المجتمعات الإنسانية، وذلك لأن الإنسان حينما ينشأ في بيئة من البيئات الاجتماعية لا بد أن يكتسب منها عن طريق التقليد معارف ومهارات