يمر المتبصر في القرآن الكريم بأمثلة جدالية كثيرة، منها صور علمها الله، ومنها صور جرت بين الرسل وأقوامهم حكاها الله لنا، ومنها إجابات وردود تولاها الله بنفسه للرد على مجادلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستطيع المتبصر في هذه الصور أن يتمثل الجدال بالتي هي أحسن في أرقى نماذجه، وأن ينتزع جميع الشروط المطلوبة للجدال بالتي هي أحسن، وجميع القواعد التي يجب مراعاتها فيه، نظرًا إلى أنها هي التطبيقات العملية الراقية له.
وفيما يلي طائفة من هذه الأمثلة:
المثال الأول:
علم الله رسوله محمدًا صلوات الله عليه طريقة من طرق مجادلته المشركين في آية من سورة "الرعد: ١٣ مصحف/ ٩٦ نزول" وهي قوله تعالى:
الشرح: مرت سورة الرعد بدءًا من مطلعها حتى آخر الآية الخامسة عشر بمراحل من معالجة المشركين بوسائل الإقناع المختلفة، التي تكشف لهم عدم جدوى ما هم به مستمسكون، ثم دعت أساليب الدعوة الحكيمة إلى الانتقال بهم إلى مرحلة المجادلة بالتي هي أحسن، فأنزل الله على رسوله هذه الآية، يعلمه فيها أسلوب المجادلة بالحق، ويرشده إلى أن يستعمل معهم شيئًا من العنف في معاريض القول ردًّا على تهجماتهم الكثيرة، التي أفصحت عنها الآيات السابقات، مع التزام الأدب القولي الرفيع في ذلك.
في هذه الآية يعلم الله رسوله كيف يجادل المشكرين ليردهم بالبرهان القاطع إلى توحيد الإلهية لله وحده، وذلك بنقلهم من الحقائق المسلم بها إلى حقائق أخرى لازمة لها لزومًا عقليًّا، ومرتكزة عليها بحكم البداهة.
وذلك بأن يضع المشركين أمام احتمالين لا ثالث لهما بالنسبة إلى ما هم عليه من شرك:
الاحتمال الأول: أن يكونوا ممن يعتقدون أن الله هو خالق السماوات