وبالتأمل الدقيق والإحصاء تنكشف لنا مجموعة من الوسائل التي يتوقف عليها رفع قواعد هذه الحضارة، وإقامة بنائها الصاعد، في تكامل مستمر إلى قمم رفيعة جدًّا من المجد الإنساني، مع العلم بأن الغايات القصوى لهذا المجد -وهي الغايات التي تدفع إليها أسس الحضارة الإسلامية- لا يستطيع الناس في أية حقبة من تاريخ الإنسان أن يقدروها حق قدرها وذلك لأنهم لا يحيطون علمًا إلا بما يتبوؤه المسلمون منها في الواقع التطبيبقي، ولا بد لنا هنا من ملاحظة تقصيرات المسلمين الكثيرة، وانحرافاتهم عن صراطها السوي لدى التطبيق العملي، في زوايا تكثر درجاتها أو تقل.
ولو تهيأ لبناة الحضارة الإسلامية أن يستمروا في رفع بنائها وصيانته على أسسها الفكرية الراسخة، التي لا يمكن أن تنهار مهما ارتفع البناء، وثقلت أحماله، وكثر ساكنوه، وتنوعوا شعوبًا وأممًا، لكانت حضارتهم التطبيقية ومنجزاتها هي الحضارة المثلى، ذات الوجه الإنساني الجميل المشرق، المتدفق حياة وشبابًا مدى الدهر.
ونستطيع قبل شرح الوسائل التي يتوقف عليها البناء الواقعي المادي، للحضارة الإسلامية بحسب السنن الكونية، أن نلخصها تلخيصًا إجماليًّا بما يلي:
الوسيلة الأولى: السعي إلى معرفة حقائق الأمور وخصائص الأشياء، وسائر صفاتها والأعمال ونتائجها عن طريق التعلم والتعليم، وتجمع هذه الوسيلة طائفة من عناصر البحث، منها الشغف بالعلم، وحب البحث والمتابعة لإدراك حقائق الأمور، ومنها حث أسس الحضارة الإسلامية على العلم، وتمجيدها للعلماء والمتعلمين، ومنها بيان طرق اكتساب المعارف والعلوم، وموقف الإسلام منها.
الوسيلة الثانية: تطبيق العلم بالعمل، وذلك عن طريق الاستفادة المباشرة من المعارف، وعن طريق الاختراع والابتكار والتحسين.
الوسيلة الثالثة: التربية، وتكون بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، واستمالة الأنفس بترغيبها بمحابها الخيرة، وبترهيبها مما تكره من شر أو ضر أو أذى.