للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولم يزد الجاحظ على هذا، ولو كانت الكلمة معروفة يومئذ لما فاتته كما هو صنيعه في كتبه*، خصوصًا وهي أوجز وأعذب مما نسبه لبعض الحكماء؛ وهذه العبارة الأخيرة "قتل البعض ... " هي التي زعم الرازي في تفسيره أنها للعرب ... فلا عبرة في هذا الباب بكلام المفسرين ولا المتأخرين من علماء البلاغة، وإنما الشأن للتحقيق التاريخي.

ونص الجاحظ في كتاب "حجج النبوة" على أن قومًا منهم ابن أبي العوجاء، وإسحاق بن الموت، والنعمان بن المنذر: "أشباههم من الأرجاس الذين استبدلوا بالعز ذلًا، وبالإيمان كفرًا، وبالسعادة شقوة، وبالحجة شبهة، كانوا يصنعون الآثار، ويولدون الأخبار، ويبثونها في الأمصار، ويطعنون بها على القرآن"؛ فهذا عندنا من ذاك.

وإن لم ينهض الدليل القاطع على أن الكلمة مترجمة عن الفارسية بظهور أصلها في تلك اللغة ورجوعه إلى ما قبل الإسلام، فهي -ولا ريب- مما وضع على طريقة ابن الرواندي الزنديق الملحد الذي كان في منتصف القرن الثالث وألف في الطعن على القرآن وقال في كتابه: "الزمردة": "إنا نجد في كلام أكثم بن صيفي شيئًا أحسن من {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} فكأن واضع الكلمة يقول على هذه الطريقة: "إنا نجد في كلام العرب شيئًا أبلغ من {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: ١٧٩] .

وهؤلاء المتطرفون على القرآن الكريم إنما يريدون ما يصنعونه من مثل هذه الكلمة أن يوجدوا للعامة وأشباههم من الأحداث والأغرار وأهل الزيغ والضعفاء في العلم -سبيلًا إلى القول في نقض الإعجاز، ومساغًا إلى التهمة في أن القرآن تنزيل؛ والخطأ في مثل هذا يتجاوز معنى الخطأ في البيان إلى معنى الكفر في الدين، وذلك ما يرمون إليه؛ وهذه بعينها


* أورد الجاحظ الآية الكريمة في الجزء الثاني من كتابه "الحيوان" صفحة ٣١ ثم قال: إلى هذا المعنى رجع قول الحكيم الأول: بعض القتل إحياء للجميع. وهذا إلى ما تقدم هو نص على أن الجاحظ لم يسمع هذه الكلمة ولم يعرفها، وقد توفي الجاحظ سنة ٢٥٥ للهجرة، وألف كتاب "الحيوان" في آخر عمره، وهو مفلوج، فلم تكن الكلمة معروفة إلى ذلك العهد، لا في الرواية ولا في الترجمة، مع انتهاء زمن الرواية واستبحار الترجمة عن الفارسية.

<<  <  ج: ص:  >  >>