رجعت من الجنازة بعد أن غبرت قدمي ساعة في الطريق التي ترابها تراب وأشعة، وكانت في النعش لؤلؤة آدمية محطمة، هي زوجة صديق طحطحتها الأمراض ففرقتها بين علل الموت، وكان قلبها يحييها فأخذ يهلكها، حتى إذا دنا أن يقضي عليها رحمها الله فقضى فيها قضاءه، ومن ذا الذي مات له مريض بالقلب ولم يره من قلبه في علته كالعصفورة التي تهتلك تحت عيني ثعبان سلط عليها سموم عينيه!
كانت المسكينة في الخامسة والعشرين من سنها، أما قلبها ففي الثمانين أو فوق ذلك؛ هي في سن الشباب وهو متهدم في سن الموت.
وكانت فاضلة تقية صالحة، لم تتعلم ولكن علمها التقوى والفضيلة, وأكمل النساء عندي ليست هي التي ملأت عينيها من الكتب فهي تنظر إلى الحياة نظرات تحل مشاكل وتخلق مشاكل ولكنها تلك التي تنظر إلى الدنيا بعين متلألئة بنور الإيمان تقر في كل شيء معناه السماوي، فتؤمن بأحزانها وأفراحها معا، وتأخذ ما تعطى من يد خالقها رحمة معروفة أو رحمة مجهولة، هذه عندي تسمى امرأة، ومعناها المعبد القدسي، وتكون الزوجة، ومعناها القوة المسعدة، وتصير الأم، ومعناها التكملة الإلهية لصغارها وزوجها ونفسها.
ومهما تبلغ المرأة من العلم فالرجل أعظم منها بأنه رجل، ولكن المرأة حق المرأة هي تلك التي خلقت لتكون للرجل مادة الفضيلة والصبر والإيمان، فتكون له وحيا وإلهامًا وعزاء وقوة، أي زيادة في سروره ونقصا من آلامه.
ولن تكون المرأة في الحياة أعظم من الرجل إلا بشيء واحد، هو صفاتها التي تجعل رجلها أعظم منها.
* هي زوج صديقنا الأستاذ حسنين مخلوف. وانظر "عمله في الرسالة" من كتاب "حياة الرافعي".