وحدثني سر "م" باشا قال: لما رجع سعد باشا من أوروبا في سنة ١٩٢١، كانت الأمة في استقباله كأنها طائر مد جناحيه، لا خلاف لشيء منه على شيء منه، بل كله هو كله؛ وكانت المعارضة في الاستحالة يومئذ كاستحالة وجود رقعة في ريش الطائر.
على أن ثوب السياسة المصرية كثير الرقع دائما بالجديد والخلق، فرقعة من المعارضين, وأخرى من المتعنتين، وثالثة من المتخاذلين، ورابعة من المعادين، وخامسة وسادسة وسابعة من الحاسدين والمنافسين والمختلفين لشهوة الخلاف؛ ورقاع بعد ذلك مما نعلم وما لا نعلم، فإن من العجيب أن هذا الجو الذي لا يتقلب إلا بطيئا، يتقلب أهله بسرعة؛ وهذه الطبيعة التي لا تكاد تختلف، لا يكاد أهلها يتفقون.
ولكن سعدا "رحمة الله" رجع من أوروبا رجعة الكرامة لأمة كاملة، ففاز بأنه لم يخسر شيئا من الحق، وانتصر بأنه لم يهزم، ودل على ثباته بأنه لم يتزعزع، وذهب صولة ورجع صولة وعزيمة؛ فكان إيمان الشعب هو الذي يتلقاه، وكانت الثورة هي التي تحتفل به، وبطلت العلل كلها فلم يجد الاعتراض شيئا يعترض عليه، واتفقت الأسباب فاجتمعت الكلمة، وظهر سعد كأنه روح الأمة متمثلًا في قدرة، حاكما بقوة، متسلطا بيقين.
نعم لم ينتصر البطل، ولكن الأمة احتفت به لأنه يمثل فيها كمالا من نوع آخر هو سر الانتصار؛ فكانت حماسة الشعب في ذلك اليوم حماسة المبدأ المتمكن؛ يظهر شجاعة الحياة، وفورة العزائم، وفضيلة الإخلاص، وشدة الصولة، وعناد التصميم؛ ويثبت بقوة ظاهره قوة باطنه، وكان فرح الأمة عنادا سياسيا يفرح بأنه لا يزال قويا لم يضعف، وكان ابتهاجها مجدًا يشعر بأنه لا يزال وافرًا لم ينتقص، وكان الإجماع ردا على اليأس، وكانت الحماسة ردا على الضعف.
انبعثت صولة الحياة في الشعب كله، وابتدأ المستقبل من يومئذ، فلو نزلت