للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الأجنبية *:

أحبها وأحبته، حتى ذهب بها في الحب مذهبًا قالت له فيه: "لو جاءني قلبي في صورة بشرية لأراه كما أحسه، لما اختار غير صورتك أنت في رقتك وعطفك وحنانك" وحتى ذهبت به في الحب مذهبًا قال لها فيه: "إن الجنة لا تكون أبدع فنًّا ولا أحسن جمالًا، ولا أكثر إمتاعًا -لو خُلقت امرأة يهواها رجل- إلا أن تكون هي أنتِ! " فقالت له: "ويكون هو أنت! ".

وتدلَّهت فيه، حتى كأنما خَلَبَها عقلها ووضع لها عقلًا من هواه؛ فكانت تقول له فيما تبثه من ذات نفسها: "إن حب المرأة هو ظهور إرادتها متبرئة من أنها إرادة، مقرة أنها مع الحبيب طاعة مع أمر، مذعنة أنها قد سلمت كبرياءها لهذا الحبيب؛ لتراه في قوته ذا كبرياءين".

وافتتن بها حتى أخذت منه كل مأخذ، فملأت نفسه بأشياء، وملأت عينه من أشياء، فكان يقول لها في نجواه: "إني أرى الزمن قد انتسخ مما بيني وبينك، فإنما نحن بالحب في زمن من نفسينا العاشقتين، لا يسمى الوقت ولكن يسمى السرور؛ وإنما نعيش في أيام قلبية، لا تدل على أوقاتها الساعة بدقائقها وثوانيها، ولكن السعادة بحقائقها ولَذَّاتها".

وتحابَّا ذلك الحب الفني العجيب، الذي يكون ممتلئًا من الروحين يكاد يفيض وينسكب، وهو مع ذلك لا يبرح يطلب الزيادة، ليتخيل من لذتها ما يتخيل السكير في نشوته إذا طفحت الكأس، فيرى بعينيه أنها ستتسع لأكثر ما امتلأت به، فيكون له بالكأس وزيادتها سكر الخمر وسكر الوهم.

وتحابا ذلك الحب الفَوَّار في الدم، كأن فيه من دورته طبيعة الفراق والتلاقي بغير تلاق ولا فراق؛ فيكونان معًا في مجلسهما الغزلي، جنبه إلى جنبها وفاها إلى فيه١


* انظر "الرافعي العاشق" من كتاب "حياة الرافعي".
١ تأويل هذا في باب "الحال" عند ظرفاء النحويين: متلاصقين متعانقين.

<<  <  ج: ص:  >  >>