للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العجوزان "١":

قال محدثي: التقى هذان الشيخان بعد فراق أربعين سنة، وكانت مثابتهما* ذلك المكان القائم على شاطئ البحر في إسكندرية في جهة كذا؛ وهما صديقان كانا في صدر أيامهما -حين كانت لهما أيام ... رجلي حكومة يعملان في ديوان واحد، وكانا في عيشهما أخويِّ جدٍّ وهزلٍ، وفضائلَ ورذائلَ، يجتمعان دائمًا اجتماع السؤال والجواب، فلا تنقطع وسيلة أحدهما من الآخر؛ وكأن بينهما في الحياة قرابة الابتسامة من الابتسامة والدمعة من الدمعة.

ولبثا كذلك ما شاء الله، ثم تبددا وأخذتهما الآفاق كدأب "الموظفين"؛ ينتظمون وينتشرون، ولا يزال أحدهم ترفعه أرض وتخفضه أخرى، وكأن "الموظف" من تفسير قوله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: ٣٤] !

وافترق الصديقان على مضض، وكثيرًا ما يكون أمر الحكومة بنقل بعض "موظفيها" هو أمرها بتمزيق بعضهم من بعض؛ ثم تصرفت بهما الدنيا فذهبا على طرفي طريق لا يلتقيان، وأصبح كلاهما من الآخر كيومه الذي مضى.. يحفظ ولا يرى..

قال المحدث: وكنت مع الأستاذ "م"، وهو رجل في السبعين من عمره، غير أنه يقول عن نفسه إنه شاب لم يبلغ من العمر إلا سبعين سنة.. ويزعم أن في جمسه الناموس الأخضر الذي يحيي الشجرة حياة واحدة إلى الآخر.

رجل فارهٌ، متأنق، فاخر البزة، جميل السمت، فارع الشطاط** كالمصبوب في قالب لا عوج فيه ولا انحناء، مجتمع كله لم يذهب منه شيء، قد حفظته


* أي المكان الذي اجتمعا فيه بعد التفرق.
** ممتد الطول.

<<  <  ج: ص:  >  >>