وحدثني صاحب سر "م" باشا بهذا الحديث قال: كنا في ثورة سنة ١٩١٩ سنة الهزاهز والفتن، وقد تفاقمت الثورة، وأخذ الشباب يعمل ويفكر فيما يستطيع أن يعمل، وما يجب أن يعمل؛ وكان السخط العام هو ميراث الوقت، فكانت قلوب الشعب تلهم واجباتها إلهامًا، إذ لم يكن في هذه القلوب كلها إلا لذعة الدم تعين اتجاه أعمالها وتحدده.
كانت الثورة زلزلة وقعت في التاريخ، فجاءت تحت زمن راكد لا يتغير إلا بأن ينسف، ولا ينسفه إلا مادة إلهية كالحركة الكونية التي تخرج اليوم الجديد من القديم؛ فكان القدر يعمل بأيدي الإنجليز عملا مصريا، ويعمل بأيدي المصريين عملا آخر.
وتعلم الشعب من دفن شهدائه كيف يستنبت الدم فينبت به الحرية، وكيف يزرع الدمع فيخرج منه العزم، وكيف يستثمر الحزن فيثمر له المجد.
وكان رصاص الإنجليز يصيب هدفين معا: فيصرع شهداءنا، ويقتل الموت السياسي الذي احتل معهم هذه البلاد. وقد أنعموا على الشعب بالصدمة الأولى، فنشبت المعركة التي تقاتل فيها الأخلاق القومية لتنتصر؛ وشعرت مصر في جهادها بأنها مصر، فالتمس روحها التاريخي رمزه العظيم في الأمة ليظهر فيه عاتيا جبارًا؛ فكان هذا الرمز الجليل العظيم هو سعد زغلول.
قال صاحب السر: وكان الطلبة قد غدوا من أول النهار يتظاهرون، وقد جعلتهم الثورة كالأرواح تخلصت من الموت بالموت فلا تخشاه ولا تباليه، واستقلت عن العقل بتحولها إلى شعور محض، وخرجت عن القوانين كلها إلا القانون الخفي الذي لا يعلم ما هو.
كانوا في معاني قلوبهم لا في غيرها، فلست تراهم إلا عظماء في عظمة