الشاعر في رأينا هو ذاك الذي يرى الطبيعة كلها بعينين لهما عشق خاص وفيهما غزل على حدة، وقد خلقتا مهيأتين بمجموعة النفس العصبية لرؤية السحر الذي لا يرى إلا بهما، بل الذي لا وجود له في الطبيعة الحية لولا عينا الشاعر، كما لا وجود له في الجمال الحي لولا عينا العاشق.
فإذا كان الشاعر العظيم أعمى كهوميروس وملتون وبشار والمعري وأضرابهم، انبعث البصر الشعري من وراء كل حاسة فيه، وأبصر من خواطره المنبثة في كل معنى، فأدى بالنفس في الوجود المظلم أكثر ما كان يؤديه بهذه النفس في الوجود المضيء، وقصر عن المبصرين في معانٍ وأربى عليهم في معانٍ أخرى، فيجتمع الشعر من هؤلاء وأولئك مد النفس الملهمة مما بين أطراف النور إلى أغوار الظلمة.
والشعر في أسرار الأشياء لا في الأشياء ذاتها، ولهذا تمتاز قريحة الشاعر بقدرتها على خلق الألوان النفسية التي تصبغ كل شيء وتلونه لإظهار حقائقه ودقائقه حتى يجري مجراه في النفس ويجوز مجازه فيها؛ فكل شيء تعاوره الناس من أشياء هذه الدنيا فهو إنما يعطيهم مادته في هيئته الصامتة، حتى إذا انتهى الشاعر أعطاه هذه المادة في صورتها المتكلمة، فأبانت عن نفسها في شعره الجميل بخصائص ودقائق لم يكن يراها الناس كأنها ليست فيها.
فبالشعر تتكلم الطبيعة في النفس وتتكلم النفس للحقيقة وتأتي الحقيقة في أظرف أشكالها وأجمل معارضها، أي في البيان الذي تصنعه هذه النفس الملهمة حين تتلقى النور من كل ما حولها وتعكسه في صناعة نورانية متموجة بالألوان في المعاني والكلمات والأنغام.
والإنسان من الناس يعيش في عمر واحد، ولكن الشاعر يبدو كأنه في أعمار