وأما صاحب القلب المسكين فما علم أنها قد رحلت عن ليلته حتى أظلم الظلام عليه، كأنها إذا كانت حاضرة أضاء شيء لا يرى، فإذا غابت انطفأ هذا الضوء؛ ورأيته واجمًا كاسف البال يتنازعه في نفسه ما لا أدري، كأن غيابها وقع في نفسه إنذار حرب.
لماذا كان الشعراء ينوحون على الأطلال ويلتاعون بها ويرتمضون منها وهي أحجار وآثار وبقايا؟ وما الذي يتلقاهم به المكان بعد رحيل الأحبة؟ يتلقاهم بالفراغ القلبي الذي لا يملؤه من الوجود كله إلا وجود شخص واحد؛ وعند هذا الفراغ تقف الدنيا مليًّا كأنها انتهت إلى نهاية في النفس العاشقة، فتبطل حينئذٍ المبادلة بين معاني الحياة وبين شعور الحي؛ ويكون العاشق موجودًا في موضعه ولا تجده المعاني التي تمر به، فترجع منه كالحقائق تلم بالفراغ من وعي سكران.
يا أثر الحبيب حين يفارق الحبيب! ما الذي يجعل فيك تلك القدرة الساحرة؟ أهو فصلك بين زمن وزمن، أم جمعك الماضي في لحظة؛ أم تحويلك الحياة إلى فكرة، أم تكبيرك الحقيقة إلى إضعاف حقيقتها، أم تصويرك روحية الدنيا في المثال الذي تحسه الروح، أم إشعارك النفس كالموت أن الحياة مبنية على الانقلاب، أم قدرتك على زيادة حالة جديدة للهم والحزن، أم رجوعك باللذة ترى ولا تمكن، أم أنت كل ذلك؛ لأن القلب يفرغ ساعة من الدنيا ويمتلئ بك وحدك؟
يا أثر الحبيب حين يفارق الحبيب! ما هذه القوة السحرية فيك تجتذب بها الصدر ليضمك، وتستهوي بها الفم ليقبلك، وتستدعي الدمع لينفر لك، وتهتاج الحنين لينبعث فيك؟ أكل ذلك لأنك أثر الحبيب، أم لأن القلب يفرغ ساعة من الدنيا ولا يجد ما يخفق عليه سواك؟