للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

دعابة إبليس *١:

أما إني سأقص هذا الحكاية كما اتفقت، لا أزينها بخيال، ولا أتزيد فيها بخبر، ولا أولد لها معنى؛ فإنما هي حكاية خبث الخبيث, فنها حذقه ودهاؤه، ورقتها غلظته وشره، ومعانيها بلاؤه ومحنته؛ وأعوذ بالله من الشيطان الرجيم، والله المستعان.

لما فكرت في وضع مقالة "إبليس" من أحاديث "ابن مسكين"، وأدرت رأيي في نهجها وحدودها ومعانيها، جعل فكري يتقطع في ذلك، يهذب ويجيء كأن بيني وبينه منازعة، أو كأن في نفسي شيئا يثنيني ويقطعني عن العزم؛ وخيل إلي حينئذ أن "إبليس" هذا منفعة من المنافع, وأنه هو قانون الطبيعة الذي نص مادته الأولى: ما أعجبك فهو لك. ونص مادته الأخيرة: ما احتجت إليه فثمنه أن تقدر على أخذه.

وهجس في نفسي هاجس أن "إبليس" قائم في لفظ الحرية كما هو قائم في لفظ الإثم، وأنه إن يكن في قلوب الفساق فهو أيضا في أدمغة الفلاسفة وإن كان في سقوط أهل الرذيلة إلى الرذيلة، فهو كذلك في سمو أهل الفن إلى الفن. قال الهاجس: وإن "إبليس" أيضًا هو صاحب الفضيلة العملية في هذا العصر المادي، فهو من ثم حقيق أن يلقبوه "صاحب الفضيلة".

ولكني لم أحفل بهذه الوساوس ولم أعج على شيء منها، واستعنت الله وأمضيت نيتي على الكتابة، وأخذت أقلب الموضوع، وأنبه فكري له، وأستشرف لما يؤدي إليه النظر، وأتطلع لما يجيء به الخاطر، وألتمس ما أبني عليه الكلام كما هي عادتي؛ فلم يقع لي شيء ألبته، كأنما ذهب أول ابتداء الموضوع فلا أول له ولا سبيل إلى اقتحامه، وكأنه من وراء العلم فلا يبلغ إليه، وكأنه من التعذر كمحاولة تصوير حماقة الحياة كلها في كلمة. وإبليس كلمة فيها حماقة الحياة كلها.


* انظر "عود على بدء" من كتاب "حياة الرافعي".
١ الدعابة: المزاح واللعب، وكل ما سيرد في هذه المقالة فهو صحيح لم نخترع منه شيئا.

<<  <  ج: ص:  >  >>