على شاطئ النيل في إقليم "الغربية" من هذا البر، قرية ليس فيها من جبل، ولكن روح الجبل في رجل من أهلها، فإذا أنت اعتبرته بالرجال قوة وضعفًا رأيته ينهض فيهم بمنكبيه نهضة الجبل فيما حوله؛ وهو بطل القرية ولواء كل معركة تنشب فيها بين فتياتها وبين فتيان القرى المتناثرة حولها؛ ولا تزال هذه المعارك بين شبان القرى كأنها من حركة الدم الحر الفاتح المتوارث فيهم من أجيال بعيدة ينحدر من جبل إلى جبل وفيه تلك القطرات الثائرة التي كانت تغلي وتفور، وهي كعهدها لا تزال تفور وتغلي، ويلقبون هذا الرجل الشديد "بالجمل"؛ لما يعرفونه من جسامة خلقه وصبره على الشدائد، واحتماله فيها، وكونه مع ذلك سلس القياد سليم الفطرة رقيق الطبع؛ على أنه أبطش ذي يدين إن ثار ثائره، وله إيمان قوي يستمسك به كما يتماسك الجبل بعنصره الصخري، إلا أنه يخلطه ببعض الخرافات؛ إذ لابد له من بعض الجرائم الشريفة التي يمل عليها فرط القوة والمروءة في مثله مع مثله.
وليس في تلك القرية من بحر، غير أن فيها شابًا أعنف طيشًا وعتوًًا من الموجة على بحرها في يوم ريح عاتية، حلو المنظر لكنه مر الطعم، صافي الوجه لكن له غورًا بعيدًا من الدهاء والخبث، وهو ابن عمدة البلدة وواحد أبويه والوارث من دنياهما العريضة، يبسط يديه على خمسمائة فدان، وقد أفسدته النعمة وأهانته عزته على أهله؛ ولو اجتمعت حسنتان التخرج منهما سيئة من السيئات بأسلوب من الأساليب، لما وسعها إلا أسلوب نشأته من أبويه الطيبين، تعلم وهو يعرف أنه لا حاجة به إلى العلم، فجعلت تلفظه المدارس واحدة بعد واحدة كأنه نواة ثمرة إنسانية فإذا قيل له في ذلك قال: إن خمسمائة فدان لا تسعها مدرسة.... وذهب إلى فرنسا يطلب العلم الذي استعصى عليه في مصر، فأرهف ذلك العلم خياله وصقل حسه، ورجع من باريس رقيق الحاشية خنثًا متطرفًا لا يصلح شرقيًا ولا غربيًا!