للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المجنون * "١":

جاء يمشي هادئا يتخيل في مشيته، ويرجف بين الخطوة والخطوة كأنه من كبره يشعرك أن الأرض مدركة أنه يمشي فوقها ... ولا ينقل قدمه إذا خطا حتى ينهض برأسه يحركه إلى أعلى، فما تدري أهو يريد أن يطمئن إلى أن رأسه معه ... أم يخيل إليه أن هذا الرأس العظيم قد وضع على جسمه في موضع راية الدولة، فهو يهزه هز الراية ...

وأخذته عيني وليس بيني وبينه إلا طول غرفة وعرضها, فإذا هو زائغ البصر كأنما وقع في صحراء يقلب عينه في جهاتها متحيرًا مترددا، ثم كأنما رفع له في أقصاها جبل فأخذ إلى ناحيته ...

ورحبت به، وأجلسته إلى جانبي، فأخذ يستعرف إلي بذكر اسمه وجماعته وبلده، لا يزيد على ذلك شيئا، كأنه عنترة بني عبس, لأرضه من طبيعتها جغرافيا، ومن اسمه جغرافيا حدة ... فلما رآني لا أثبته معرفة قال: "إن بك نسيانًا".

قلت: وكثيرا ما أنسى غير أن اسمك ليس من هذه الأسماء التي تذكر بتاريخ.

قال: "هذه غلطة الجرائد ... ومهما تنسى من شيء فلا تنس أنك أستاذ "نابغة القرن العشرين"١.

فسرحت فيه نظري، فإذا أنا بمجنون ظريف أمرد أهيف, يكاد برخاوته وتفككه لا يكون رجلا، ويكاد يبدو امرأة بجمال عينيه وفتورهما.

وتوسمت فإذا وجه ساكن منبسط الأسارير ممسوح المعاني، ينبئ بانقطاع صاحبه مما حوله، كأن دنياه ليست دنيا الناس، ولكنها دنيا رأسه ...


* انظر حديث هذا المجنون وخبره في "عود على بدء" من كتاب "حياة الرافعي".
١ هذا الشاب المجنون من الأذكياء، وكان قد انتهى إلى مدرسة المعلمين الأولية، ثم خولط في عقله فتركها؛ وكل ما يمر في هذا المقال بين قوسين فهو بنصه من كلامه.

<<  <  ج: ص:  >  >>