النية صادقة مخلصة، لم يكن اختلافهما إلا من تنوع الرأي، وانتهيا إلى الاتفاق بغلبة أقوى الرأييين، وما من ذلك بد.
الحقيقة يا بني أن الجماهير الشرقية ليست في تربيتها من الجماهير السياسية التي يعتد بها، إذ لا تزال في أول عمرها السياسي، وبهذا السبب وحده كان اختلاف الكبراء في السياسة لا يشبهه إلا الخصمين بغير شهود ولا قاض نافذ الحكم، فهو نزاع قوة تفوز بوسائلها، لا نزاع حق يستعلي بأدلته.
وهذه المجالس النيابية الشرقية كلها صور ممثلة جافة، منقطعة النماء من أسبابها، كالفرع المقطوع من الشجرة، وإنما يتنضر الفرع ويثمر أثماره إذا قام بشجرته لا بنفسه، وما شجرة الفرع السياسي إلا الجمهور السياسي.
فسبيل الإصلاح في كل مملكة شرقية أن ينهض أهل الرأي من كل مدينة فيها بين عالم وأديب ومحام وسري، ومن كان بسبيل من هؤلاء، فيجعلوا لمدينتهم دار ندوة للاجتماع والبحث والمشورة، وقول "نعم" بالحجة وقول "لا" بالحجة. ثم يعلنون ذلك في جمهورهم وينزلون منه منزلة الأستاذ والأب والصديق في تعليمه وهدايته وإرشاده؛ وتتصل هذه الدور في كل مملكة بعضها ببعض، وتنتهي بالمجالس النيابية. وبغير ذلك لا يملأ الفراغ الذي نراه خاويا بين الشعب والحكومة، وبين الكبراء والجماهير، وإنما أكثر مصائبنا من هذا الفراغ؛ فهو الذي يضيع فيه ما يضيع فيه، ويختفي ما يختفي.
منا قوم موظفون في الحكومة؛ لكن أين القوم الذين تكون الحكومة نفسها موظفة عندهم؟
"اعتذار": بهذا المقال انتهت أحاديث الباشا؛ فقد أنبأنا صاحب السر أنه سيكتم السر ...