فرغت الآن من قراءة شعر حافظ بعد أن لم يعد حافظ بيننا إلا شعره ونثره، وفبالله أحلف ما نظرت في صفحة مما بين يدي إلا وأحسست أن ذلك الشاعر العيظم يقول في بيانه الرائع وصناعته البديعة: أنا هنا!
ولغة هذا الشعر المتدفعة بالحياة كأن كلماتها القوية عروق في جسم حي متوثب لم تخرج عن أن تكون هي العربية المبينة في جزالتها ونصاعتها ودقة تركيبها البياني، ومع ذلك فليس في هذا العصر كله من يكابر أو يماري في أنها هي لغة حافظ وحده، كأنه أرغم التاريخ أن يحتفظ به في أجمل آثاره.
وأنا أعرف في شعره مواضع من الاضطراب والضعف والنقص سأشير إلى بعضها، ولكني على ما أعرفه أجد هذا الشعر كالتيار يعب عبابه لا يبالي ما تناثر منه وما ركد وما وقع في غير موقعه، إذ كانت عظمته في اجتماع مادته لا في أجزاء منها، وفي السر الذي يدفعها في كل موضع لا في المظهر الذي تكون به في موضع دون موضع؛ فهو أبدًا يقول لمن يتصفح عليه أو ينتقده: انظر لما بقي.
ترجع صداقتي لحافظ رحمه الله إلى سنة ١٩٠٠، أول عهدي بالأدب وطلبه، وقد شهدت من يومئذ بناءه الأدبي عاليًا فعاليًّا إلى الذروة التي انتهى إليها، وأخلص لي ثقته وأصفاني مودته، وكان همك من أخ كريم، وله في نفسي مكان لم ينكره مذ عرفته، ولم يضق بمحبته منذ اتسع لها. وكنت وإياه يرى أحدنا الآخر من هذه اللغة كالجانبين لصورة واحدة: لا يتهيأ في الطبيعة أن يختلفا والصورة بعد قائمة، ولا أن يضطرب ما بينهما والصورة منهما على وزن وتقدير.
ولكن هذا لا يمنعني أن أقرر أنه كان عندي أكبر من شعره -ولعله كذلك عند كل من خلطوه بأنفسهم- فإنه يتعاظمك بنفسه القوية وبالمعنى الذي تحسه في