للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العبقري ولا تدري ما هو؛ وذلك من سحر العبقريين وأثرهم في نفس من يتصل بهم، فيتسق لهم أمران من أمر واحد، وحظان بحظ، ونصيبان بنصيب؛ لأن مع الإعجاب بآثارهم إعجابًا آخر بالقوة التي أبدعت هذه الآثار؛ ففي ذواتهم المحبوبة يستمر الإعجاب كالسائر على طريق لا موقف عليه، وفي آثارهم يكون الإعجاب في موقف قد انتهت الطريق به، فوقف على حد إن بعد وإن قرب.

لا جرم كان شاعرنا عبقريًّا عجيب الصنعة قوي الإلهام بليغ الأثر في عصره، يشبه تحولًا وقع في صورة من صور التاريخ، ولكنه كذلك في مذاهب من الشعر دون غيرها، فلم يكن معه من التمام في فنون الشعر ما يكون به الشاعر التام أو الأديب الكامل الأداء؛ وكم من مرة كلمته في ذلك ونبهته إلى أنه كالنمط الواحد، وأنه يجب أن يترسل شعره بين النفوس الإنسانية وأغراضها الكثيرة المختلفة، فإذا كانت السياسة من الحياة فليست الحياة هي السياسة، ولا ينبغي أن يكون شعره كله كشمس الصيف، فإن للربيع شمسًا أجمل منها وأحب كأنها مجتمعة من أزهاره وعطره ونسيمه.

ولقد كان يفخر بأنه "الشاعر الاجتماعي"، وهذا لقب ميزه به صديقنا الأستاذ محمد كرد علي أيام كان في مصر قديمًا، فتعلق به حافظ ورآه تعبيرًا صحيحًا لما في نفسه وللملكة التي اختص بها، قال لي يومًا في سنة ١٩٠٣: أنا لا أعد شاعرًا إلا من كان ينظم في الاجتماعيات، فقلت له: وما لك لا تقول بالعبارة المكشوفة: إنك لا تعد الشاعر إلا من ينظم مقالات الجرائد..

ولا بد لي أن أبسط هذا المعنى في هذا الفصل، فإنه كان يخيل إلي دائمًا أن شاعرنا "حافظ" خلق للتاريخ في أصل طبيعته، ثم زيدت فيه موهبة الشعر؛ ليكون مؤرخًا حي الوصف بليغ التأثير قوي التصرف؛ ومن ثم جاء أكثر ما نظمه وأساسه التاريخ والسياسة، وصح له بهذا الاعتبار أن يقول إنه الشاعر الاجتماعي، ولكن مادة الشعر غير روح الشعر، فإذا كان في المادة اجتماعي وسياسي فليس في الروح إلا الشاعر على إطلاقه؛ والاجتماعيات ليست كل حقائق الحياة، وهي بعد ذلك معانٍ خاصة محصورة في زمنها ومكانها؛ على أن الحقائق ليست هي الشعر، وإنما الشعر تصويرها والإحساس بها في شكل حي تلبسه الحقيقة في النفس، فالشاعر الاجتماعي شاعر في حيز محدود من وجوه الشعر ومذاهبه، وإذا كان الاجتماع كل شعره فلا يسمى شعره فنًّا؛ إذ كان الفن إنسانيًّا وكان شاملًا عامًّا والمقاييس التي يطرد عليها الفن الأدبي لا تكون في الزمن ولا في الموضع، بل في النفس الإنسانية التي لا

<<  <  ج: ص:  >  >>