وأما هو فحدثني بهذا الحديث العجيب من لطائف إلهامه وفنه، قال: انصرفت إلى داري وقد عز عليَّ أن يكون هذا منها وأن يكون هذا مني، وهي إن غابت أو حضرت فإنها لي كالشمس للدنيا: لا تظلم الدنيا في ناحية إلا من أنها تضيء في ناحية؛ فظلمتها من عمل نورها؛ وكانت ليلتي فارغة من النوم فبت أتململ، وجعل القلب يدق في جنبي كأنه آلة في ساعة لا قلب إنسان؛ وكان في الدنيا من حولي صمت كصمت الذي سكت بعد خطبة طويلة، وفي أنا صمت آخر كصمت الذي سكت بعد سؤال لا جواب عليه؛ وكان الهواء راكدًا كالسكران الذي انطرح من ثقله السكر بعد أن هذى طويلًا وعربد؛ والوجود كله يبدو كالمختنق؛ لأن معنى الاختناق في قلبي وأفكاري؛ ونظرت نظرة في النجوم فإذا هي تتغور نجمًا بعد نجم، كأن معنى الرحيل انتشر في الأرض والسماء إذ رحلت الحبيبة؛ وكأن كل وجه مضيء يقول لي كلمة: لا تنتظر!
فلما عسعس الليل رميت بنفسي فنمت والعقل يقظان، وصنعت الأحلام ما تصنع، فرأيتها هي في تلك الشفوف التي ظهرت فيها عروسًا؛ وما أعجب كبرياء المرأة المحبوبة! إنها لتبدو لعيني محبها كالعارية وراء ستر رقيق يشف عنها كالضوء، ثم تدل بنفسها أن ترفع هذا الستر، فإن لم يتجرأ هو لم تتجرأ هي؛ وكأنها تقول له: قد رفعته بطريقتي فارفعه أنت بطريقتك..
وكانت مصورة في الحلم تصويرًا آخر؛ فلا ينسكب من جسمها معنى الحسن الذي أتأمله وأعقله، ولكن معنى السكر الذي يترك المرء بلا عقل؛ ولم تكن غلائلها عليها كالثياب على المرأة، ولكنها ظهرت لي كاللون على الوردة الزاهية: تظهر فتنة وتتم فتنة.
أيتها الأحلام، ماذا تبدعين إلا مخلوقات الدم الإنساني، ماذا تبدعين؟