" ... ربما عابوا السمو الأدبي بأنه قليل، ولكن الخير كذلك، وبأنه مخالف، ولكن الحق كذلك، وبأنه محير، ولكن الحسن كذلك، وبأنه كثير التكاليف، ولكن الحرية كذلك".
الرافعي
هذا كتاب، آخر كتاب أنشأه الرافعي، ففيه النفحة الأخيرة من أنفاسه، والنبضة الأخيرة من قلبه، والومضة الأخيرة من وجدانه ... أفرأيت الليل المطبق كيف تتروَّح نسماته الأخيرة بعبير الشجر وتتندَّى أزهاره في نسيم السحر؟
ألا وإنه إلى ذلك أول كتاب أنشأه على أسلوبه وطريقته، فقد عاش الرافعي ما عاش يكتب لنفسه وينشر لنفسه، لا يعنيه مما يكتب وينشر إلا أن يُحيل فكرة في رأسه أو لمحة في خاطره أو خفقة في قلبه, إلى تعبير في لسانه أو معنى في ديوانه، ولا عليه بعد ذلك أن يتأدى معناه إلى قارئه كما أراده أو يُغلق دونه، فلما اتصل سببه بمجلة "الرسالة"* رأى لقارئه عليه حقًّا أكثر من حق نفسه، فكان أسلوبه الجديد الذي أنشأ به الكتاب.
على أن هذا الكتاب -وشأنه ما قدمت- يجمع كل خصائص الرافعي الأدبية متميزة بوضوح، فمن شاء فليقرَأه دون سائر كتبه، فسينكشف له الرافعي في سائر كتبه. والأديب الحق تستعلن نفسه بطريقتها الخاصة في كل زمان ومكان على اختلاف أحواله وما يحيط به.
* اتصل الرافعي بمجلة الرسالة قبيل موته بثلاث سنوات، وكان ذلك أول اشتغاله بالصحافة، فلم يكن له قبلها صلة "صحافية" بجريدة من الجرائد أو مجلة من المجلات، وقد كان لذلك أثره في أسلوبه من قبل ومن بعد إلى أسباب أخرى, وانظر "فترة جمام" و"عمله في الرسالة" و"نقلة اجتماعية" من كتابنا "حياة الرافعي".