هذا هو الرجل الذي يخيل إلي أن مصر اختارته دون أهلها جميعًا لتضع فيه روحها المتكلم، فأوجبت له ما لم توجب لغيره، وأعانته بما لم يتفق لسواه، ووهبته من القدرة والتمكين وأسباب الرياسة وخصائصها على قدر أمة تريد أن تكون شاعرة، لا على قدر رجل في نفسه؛ وبه وحده استطاعت مصر أن تقول للتاريح: شعري وأدبي!
شوقي: هذا هو الاسم الذي كان في الأدب كالشمس من المشرق: متى طلعت في موضع فقد طلعت في كل موضع، ومتى ذكر في بلد من بلاد العالم العربي اتسع معنى اسمه فدل على مصر كلها كأنما قيل النيل أو الهرم أو القاهرة؛ مترادفات لا في وضع اللغة ولكن في جلال اللغة.
رجل عاش حتى تم، وذلك برهان التاريخ على اصطفائه لمصر، ودليل العبقرية على أن فيه السر المتحرك الذي لا يقف ولا يكل ولا يقطع نظام عمله، كأن فيه حاسة نحلة في حديقة، ويكبر شعره كلما كبر الزمن، فلم يتخلف عن دهره، ولم يقع دون أبعد غاياته، وكأنه مع الدهر على سياق واحد، وكأن شعره تاريخ من الكلام يتطور أطواره في النمو فلم يجمد ولم يرتكس، وبقي خيال صاحبه إلى آخر عمره في تدبير السماء كعراص الغمامة، سحابه كثير البرق ممتلئ ممطر ينصب من ناحية ويمتلئ من ناحية.
والناس يكتب عليهم الشباب والكهولة والهرم، ولكن الأديب الحق يكتب عليه شباب وكهولة وشباب؛ إذ كانت في قلبه الغايات الحية الشاعرة، ما تنفك يلد بعضها بعضًا إلى ما لا انقطاع له، فإنها ليست من حياة الشاعر التي خلقت في قلبه، ولكنها من حياة المعاني في هذا القلب.
١ المقتطف: نوفمبر سنة١٩٣٢، وانظر ص١٥٦-١٥٧ "حياة الرافعي".