حدث أحمد بن مسكين الفقيه البغدادي قال: حصَلْت في مدينة "بلخ" سنة ثلاثين ومائتين، وعالمها يومئذ شيخ خراسان أبو عبد الرحمن١ الزاهد صاحب المواعظ والحكم؛ وهو رجل قلبه من وراء لسانه، ونفسه من وراء قلبه، والفلك الأعلى من وراء نفسه، كأنه يلقى عليه فيما زعموا.
وكان يقال له عندهم:"لقمان هذه الأمة"؛ لما يعجبهم من حكمه في الزهد والموعظة، وقد حضرت مجالسه وحفظت من كلامه شيئا كثيرا، كقوله: من دخل في مذهبنا هذا "يعني الطريق" فليجعل على نفسه أربع خصال من الموت: موت أبيض، وموت أسود، وموت أحمر، وموت أخضر؛ فالموت الأبيض الجوع، والموت الأسود احتمال الأذى، والموت الأحمر مخالفة النفس، والموت الأخضر طرح الرقاع بعضها على بعض "يعني لبس المرقعة والخلق من الثياب".
وقلت يوما لصاحبه وتلميذه "أبي تراب" وجاريته في تأويل هذا الكلام: قد فهمنا وجه التسمية في الموت الأخضر ما دامت المرقعة خضراء؛ فما الوجه في الأبيض والأسود والأحمر؟ فجاء بقول لم أرضه، وليس معه دليل، ثم قال: فما عندك أنت؟ قلت: أما الجوع فيميت النفس عن شهواتها ويتركها بيضاء نقية، فذلك الموت الأبيض؛ وأما احتمال الأذى فهو احتمال سواد الوجه عند الناس، فهو الموت الأسود؛ وأما مخالفة النفس فهي كإضرام الناس فيها، فذاك الموت الأحمر.
قال أحمد بن مسكين: وكنت ذات نهار في مسجد "بلخ" والناس متوافرون ينتظرون "لقمان الأمة" ليسمعوه، وشغله بعض الأمر فراث عليهم، فقالوا: من يعظنا إلى أن يجيء الشيخ؟ فالتفت أبو تراب وقال: أنت رأيت الإمام أحمد بن حنبل، ورأيت بشرا الحافي وفلانا وفلانًا، فقم فحدث الناس عنهم،
١ هو حاتم بن يوسف شيخ خراسان وواعظها، توفي سنة ٢٣٧ للهجرة.