فإنما هؤلاء وأمثالهم هم بقايا النبوة. ثم أخذ بيدي إلى الأسطوانة التي يجلس إليها إمام خرسان فأجلسني ثمة وقعد بين يدي.
وتطاولت الأعناق، ورماني الناس بأبصارهم، وقالوا: البغدادي! البغدادي! وكأنما ضوعفت عندهم بمجلسي مرة وبنسبتي مرة أخرى, فقلت في نفسي: والله ما في الموت الأحمر والأخضر ولا الأسود موعظة، ولو لبس عزرائيل قوس قزح لأفسد شعر هذه الألوان معناه، وإنما يجب أن يكون كما يجب أن يكون؛ ولا موعظة في كلام لم يمتلئ من نفس قائله، ليكون عملا فيتحول في النفوس الأخرى عملا ولا يبقى كلاما؛ وإنه ليس الوعظ تأليف القول للسامع يسمعه، لكنه تأليف النفس لنفس أخرى تراها في كلامها، فيكون هذا الكلام كأنه قرابة بين النفسين، حتى كأن الدم المتجاذب يجري فيه ويدور في ألفاظه.
وكنت رأيت رؤيا "ببلخ" تتصل بقصة قائمة في بغداد، فقصصتها عليهم، فكانت القصة كما حكيتها: أني امتحنت بالفقر في سنة تسع عشرة ومائتين؛ وانحسمت مادتي وقحط منزلي قحطا شديدًا جمع علي الحاجة والضر والمسكنة، فلو انكمشت الصحراء المجدبة فصغرت ثم صغرت حتى ترجع أذرعا في أذرع، لكانت هي داري يومئذ في محلة باب البصرة من بغداد.
وجاء يوم صحراوي كأنما طلعت شمسه من بين الرمل لا من بين السحب، ومرت الشمس على دراي في بغداد مرورها على الورقة الجافة المعلقة في الشجرة الخضراء؛ فلم يكن عندنا شيء يسيغه حلق آدمي، إذ لم يكن في الدار إلا ترابها وحجارتها وأجذاعها، ولي امرأة ولي منها طفل صغير، وقد طوينا على جوع يخسف بالجوف خسفا كما تهبط الأرض، فلتمنيت حينئذ لو كنا جرذانا فنقرض الخشب! وكان جوع الصبي يزيد المرأة ألما إلى جوعها، وكنت بهما كالجائع بثلاثة بطون خاوية.
فقلت في نفسي: إذا لم تأكل الخشب والحجارة فلنأكل بثمنها. وجمعت نيتي على بيع الدار والتحول عنها، وإن كان خروجي منه كالخروخ من جلدي: لا يسمى إلا سلخا وموتًا؛ وبت ليلتي وأنا كالمثخن حمل من معركة؛ فما يتقلب إلا على جراح تعمل فيه عمل السيوف والأسنة التي عملت فيها.
ثم خرجت بغلس لصلاة الصبح، والمسجد يكون في الأرض ولكن السماء