تكون فيه، فرأيتني عند نفسي كأني خرجت من الأرض ساعة. ولما قضيت الصلاة رفع الناس أكفهم يدعون الله "تعالى"، وجرى لساني بهذا الدعاء:"اللهم بك أعوذ أن يكون فقري في ديني، أسألك النفع الذي يصلحني بطاعتك، وأسألك بركة الرضا بقضائك، وأسألك القوة على الطاعة والرضا يا أرحم الراحمين".
ثم جلست أتأمل شأني، وأطلت الجلوس في المسجد كأني لم أعد من أهل الزمن فلا تجري علي أحكامه، حتى إذا ارتفع الضحى وابيضت الشمس جاءت حقيقة الحياة، فخرجت أتسبب لبيع الدار، وابنعثت وما أدري أين أذهب، فما سرت غير بعيد حتى لقيني "أبو نصر الصياد" وكنت أعرفه قديما، فقلت: يا أبا نصر! أنا على بيع الدار؛ فقد ساءت الحال وأحوجت الخصاصة، فأقرضني شيئا يمسكني على يومي هذا بالقوام من العيش حتى أبيع الدار وأوفيك.
فقال: يا سيدي! خذ هذا المنديل إلى عيالك، وأنا على أثرك لاحق بك إلى المنزل. ثم ناولني منديلا فيه رقاقتان بينهما حلوى، وقال: إنهما والله بركة الشيخ.
قلت: وما الشيخ وما القصة؟
قال: وقفت أمس على باب هذا المسجد وقد انصرف الناس من صلاة الجمعة، فمر بي أبو نصر بشر الحافي١ فقال: ما لي أراك في هذا الوقت؟ قلت: ما في البيت دقيق ولا خبز ولا درهم ولا شيء يباع. فقال: الله المستعان! احمل شبكتك وتعال إلى الخندق؛ فحملتها وذهبت معه، فلما انتهينا إلى الخندق قال لي: توضأ وصل ركعتين. ففعلت، فقال: سم الله -تعالى- وألق الشبكة. فسميت وألقيتها، فوقع فيها شيء ثقيل، فجعلت أجره فشق علي؛ فقلت له: ساعدني فإني أخاف أن تنقطع الشبكة, فجاء وجرها معي، فخرجت سمكة عظيمة لم أر مثلها سمنا وعظما وفراهة. فقال: خذها وبعها واشتر بثمنها ما يصلح عيالك. فحملتها فاستقبلني رجل اشتراها، فابتعت لأهلي ما يحتاجون إليه، فلما أكلت وأكلوا ذكرت الشيخ فقلت أهدي له شيئا، فأخذت هاتين الرقاقتين وجعلت بينهما هذه الحلوى، وأتيت إليه فطرقت الباب، فقال: من؟ قلت: أبو نصر! قال: افتح وضع ما معك في الدهليز وادخل. فدخلت وحدثته بما صنعت فقال: الحمد لله على
١ هو الزاهد العظيم بشر بن الحارث المعروف بالحافي، توفي سنة ٣٢٧ للهجرة وكان واحد الدنيا في ورعه وتقواه؛ وقيل له: "الحافي" لأنه كان في حداثته يمشي إلى طلب العلم حافيًا، إجلالًا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم.