ذلك. فقلت: إني هيأت للبيت شيئا وقد أكلوا وأكلت ومعي رقاقتان فيهما حلوى.
قال: يا أبا نصر! لو أطعمنا أنفسنا هذا ما خرجت السمكة! اذهب كله أن وعيالك.
قال أحمد بن مسكين: وكنت من الجوع بحيث لو أصبت رغيفا لحسبته مائدة أنزلت من السماء، ولكن كلمة الشيخ عن السمكة أشبعتني بمعانيها شبعا ليس من هذه الدنيا، كأنما طعمت منها ثمرة من ثمار الجنة؛ وطفقت أرددها لنفسي وأتأمل ما تفتق الشهوات على الناس، فأيقنت أن البلاء إنما يصيبنا من أننا نفسر الدنيا على طولها وعرضها بكلمات معدودة, فإذا استقر في أنفسنا لفظ من ألفاظ هذه الشهوات، استقرت به في النفس كل معانيه من المعاصي والذنوب، وأخذت شياطين هذه المعاني تحوم على قلوبنا، فنصبح مهيئين لهذه الشياطين، عاملين لها، ثم عاملين معها، فتدخلنا مداخل السوء في هذه الحياة، وتقحمنا في الورطة بعد الورطة, وفي الهلكة بعد الهلكة.
وما هذه الشياطين إلا كالذباب والبعوض والهوام، ولا تحوم إلا على رائحة تجذبها، فإن لم تجد في النفس ما تجتمع عليه، تفرقت ولم تجتمع، وإذا ألمت الواحدة منها بعد الواحدة لم تثبت. فلو أننا طردنا من أنفسنا الكلمات التي أفسدت علينا رؤية الدنيا كما خلقت. لكان للدنيا في أنفسنا شكل آخر أحسن وأجمل من شكلها، ولكانت لنا أعمال أخرى أحسن وأطهر من أعمالنا.
فالشيخ لم يكن في نفسه معنى لكلمة "التلذذ" وبطرده من نفسه هذا اللفظ الواحد، طرد معاني الشر كلها، وصلح له دينه، وخلصت نفسه للخير ومعاني الخير. ولو أن رجلا وضع في نفسه امرأة يعشقها، لصارت الدنيا كلها في نفسه كالمخدع, ما فيه إلا المرأة وحدها بأسبابها إليه وأسبابه إليها.
وقد كنت سمعت في درس شيخنا أحمد بن حنبل هذا الحديث:"لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات". فما فهمت -والله- معناه إلا من كلمة الشيخ في السمكة, وقد علمنيها هذا الصياد العامي؛ فالشياطين تنجذب إلى المعاني، والمعاني يوجدها اللفظ المستقر في القلب استقرار غرض أو شهوة أو طمع؛ فإذا خلا القلب من هذه المعاني؛ فقد أمن منازعتها له وشغلها إياه، فيصبح فوقها لا بينها؛ ومتى صار القلب فوق الشهوات