للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أبو حنيفة ولكن بغير فقه ١:

قد انتهينا في الأدب إلى نهاية صحافية عجيبة، فأصبح كل من يكتب ينشر له، وكل من ينشر له يعد نفسًا أديبًّا، وكل من عد نفسه أديبًا جاز له أن يكون صاحب مذهب وأن يقول في مذهبه ويرد على مذهب غيره.

فعندنا اليوم كلمات ضخمة تدور في الصحف بين الأدباء كما تدور أسماء المستعمرات بين السياسيين المتنازعين عليها، يتعلق بها الطمع وتنبعث لها الفتنة وتكون فيها الخصومة والعداوة، منها قولهم: أدب الشيوخ وأدب الشباب؛ ودكتاتورية الأدب وديمقراطية الأدب، وأدب الألفاظ وأدب الحياة، والجمود والتحول، والقديم والجديد، ثم ماذا وراء ذلك من أصحاب هذا المذهب؟

وراء ذلك أن منهم أبا حنيفة ولكن بغير فقه، والشافعي ولكن بغير اجتهاد، ومالك ولكن بغير رواية، وابن حنبل ولكن بغير حديث؛ أسماء بينها وبين العمل أنها كذب عليه وأنه رد عليها.

وليس يكون الأدب أدبًا إلا إذا ذهب يستحدث ويخترع على ما يصرفه النوابغ من أهله حتى يؤرخ بهم فيقال: أدب فلان وطريقة فلان ومذهب فلان؛ إذ لا يجري الأمر فيما علا وتوسط ونزل إلا على إبداع غير تقليد، وتقليد غير اتباع، واتباع غير تسليم؛ فلا بد من الرأي ونبوغ الرأي واستقلال الرأي حتى يكون في الكتابة إنسان جالس هو كاتبها، كما أن الحي الجالس في كل حي هو مجموعه العصبي، فيخرج ضرب من الآداب كأنه من التحول في الوجود الإنساني يرجع بالحياة إلى ذرات معانيها، ثم يرسم من هذه المعاني مثل ما أبدعت ذرات الخليقة في تركيب من تركيب، فلا يكون للأديب تعريف إلا أنه المقلد الإلهي*.

وإذا اعتبرنا هذا الأصل فهل يبدأ الأدب العربي في عصرنا أو ينتهي؛ وهل


١ وهذا فصل من المعركة الأخيرة بينه وبين زكي مبارك.
* استوفينا هذه المعاني في مقالة "الأدب والأديب".

<<  <  ج: ص:  >  >>