للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

صروف اللغوي *:

كان شيخنا هذا رجلًا حصيفًا جيد المنزعة حسن الرأي، ممكنًا له فيما كان يعترضه من مسائل اللغة، قويًّا على الأحوال التي تجري له من أوضاعها فيما يعانيه من النقل ويزاوله من الترجمة على اختلاف مناحيها وكثرة فنونها، وعلى أنها لا تزال كل يوم تنبعث من علم وتحتفل من رأي وتمد مد السيل كأنها دنيا عقلية لا يبرح عقل الإنسان دائبًا يحلق فيها ويبنيها من معاني الكون وأسراره، فلا الكون ينفد لتتم، ولا هي تتم قبل أن ينفد الكون.

وثبت شيخنا على ذلك عمر دولة من الدول في خمسين سنة ونيف، يضرب قلمه في السهل والصعب، وفي الممكن والممتنع؛ وإنه ليمر في كل ذلك مرًّا لا ينثني، ويحذو حذوًا لا يختلف، كأن الصعب عنده نسق السهل، والممتنع صوغ الممكن؛ فلو قلت: إنه بني في أصل خلقه وتركيبه على أن يكون قوة من قوى التحويل لتحقيق المشابهة العقلية بين الشرق والغرب لما أبعدت، ولو زعمت أن ذلك القلم الحي لم يكن إلا عرفًا في جسم الإنسانية لكان عسى..

وانتهى شيخنا في العهد الأخير إلى أن صار يعد وحده حجة اللغة العربية في دهر من دهورها العاتية، لا في الأصول والأقيسة والشواذ وما يكون من جهة الحفظ والضبط والإتقان، بل فيما هو أبعد من ذلك وأرد بالمنفعة على اللغة وتاريخها وقومها، بل فيما لا تنتهي إليه مطمعه أحد من علمائها وكتابها وأدبائها؛ إذ وقع الإجماع على أنه انفرد في إقامة الدليل العلمي على سعة العربية وتصرفها وحسن انقيادها وكفايتها، وأنها تؤاتي كل ذي فن على فنه، وتماد كل عصر بمادته؛ وأنها من دقة التركيب ومطاوعته مع تمام الآلات والأدوات بحيث ينزل منها رجل واحد بجهده وعمله منزلة الجماعات الكثيرة في اللغات الأخرى، كأنها آخر ما انتهت إليه الحضارة قبل أن تبدأ الحضارة.


١ هو العلامة الدكتور يعقوب صروف صاحب "المقتطف"، وقد نشر هذا المقال في مقتطف شهر يناير سنة ١٩٢٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>