ولا يذهبن عنك الفرق بين رجل حافظ والكتاب أحفظ منه، وهو من الكتاب خرج وإلى الكتاب يرجع؛ وبين رجل يكون ترجمانًا من تراجمة العقل الإنساني المعني بتأويل الكون وتفسيره، والطائر بالألفاظ الإنسانية على أجنحة العلوم والفنون والمخترعات والمعاني؛ فإن ذاك ينقل عن الواقع ثم لا يتعدى هذه المنزلة ولا يتجاوز متون الألفاظ، وأما هذا فلا يزال يضطرب مع الألفاظ ومعانيها يجاذبها ويدافعها، ثم لا يزال يضع يده في النسيج اللغوي يسدي ويلحم، فهو مدفوع إلى المسالك الدقيقة من مذاهب الوضع وطرقه، وأساليب الأخذ والانتزاع؛ وهو مقيد أبدًا بخاص المعنى وخاص اللفظ على التعيين والتحديد، لا يجد فسحة من ضيقين؛ فإن لم يكن مثل هذا في منزلة الواضع فهو في المنزلة بعده ولا ريب.
إنما اللغوي الأكبر عندي هو هذا الكون، وما العالم باللغة وفنونها إلا وسيلة لتهذيب الطريقة تهذيبًا عقليًا، فيجب من ثم إن يكون للغوي رأي وعلم وذكاء وبصر، ويجب أن يطابق النواميس، فلا يتعادى ما بينه وبينها؛ لأنه وسيلة إنطاقها ليس غير؛ ومن ذلك أرى الدكتور صروف في الغاية، فقد كان ينزع في مذهبه اللغوي منازع علمية دقيقة توزن وتقاس وتختبر، في حين لا تزيغ ولا تهن ولا تختل، وتراها تنطلق وهي مقيدة، وتتقيد وهي مطلقة؛ إذ كان لا يعتد اللغة عربية للعرب، بل عربية للحياة؛ وما تهدمه وتبنيه وما تحدثه وتنسخه فهي على أصولها فيمن قبلنا، ولكن فروعها فينا نحن وفيمن يلينا وفيمن بعد هؤلاء، قلنا أن نتولاها على تلك الأصول وعلى ما يشبهها في الطريقة حين تنتقل الحال ويتغير الرسم، ولعلة إن وجبت، ولقياس إن جاز. والدكتور بهذا الاعتبار يشتد في التمسك بالقواعد والضوابط ولا يترخص في شيء منها غير أنه لا يكون كأقوام يرون الفروع من الجذوع قد خرجت، فيحسبون الثمرات سبيلها من الجذوع أيضًا.. وإن لم تجيء منها فستجيء منها.
عرض لي يومًا أحد هؤلاء اللغويين فانتقد في المقطم قصيدة من القصائد التي رفعتها إلى الملك فؤاد، وتمحل في نقده ودلل ببعض ما نقله من كتب اللغة، فكان فيما تكلم فيه لفظا:"الأزاهر والورود"، فقال إنهما ليسا من اللغة ولم يجريا في كتبها؛ وكان من ردي عليه أن قلت له: إن العرب جمعوا الجمل ستة جموع، وجمعوا الناقة سبعة؛ لأنها أكرم عليهم منه، وإن لكل حياة صورها الدائرة في ألفاظها، فالزهر والورد عند المولدين والمحدثين أكرم من الجمل والناقة عند العرب، أو هذان كهذين؛ ثم هما من خاص الألفاظ المولدة، فلنا أن نجمعهما