للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الإنسانية العليا *:

من أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم إنه كان متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، طويل السكت، لا يتكلم في غير حاجة، ليس بالجافي ولا المهين، يعظم النعمة وإن دقت لا يذم منها شيئا, ولا تغضبه الدنيا ولا ما كان لها، فإذا تعدى الحق لم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له، ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها؛ وكان خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه ولا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه، ولا يطوي عن أحد من الناس بشره، قد وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أبا، وصاروا عنده في الحق سواء؛ يحسن الحسن ويقويه، ويقبح القبيح ويوهيه، معتدل الأمر غير مختلف؛ وكان أشد الناس حياء، لا يثبت بصره في وجه أحد، له نور يعلوه كأن الشمس تجري في وجهه، لا يؤيس راجيه, ولا يخيب عافيه، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول؛ أجود الناس بالخير١.

صلى الله وسلم على صاحب هذه الصفات التي لا يجد الكمال الإنساني مذهبا عنها ولا عن شيء منها، ولا يجد النقص البشري مساغا إليها ولا إلى شيء منها؛ ففيها المعنى التام للإنسانية، كما أن فيها المعنى التام للحق، ومن اجتماع هذين يكون فيها المعنى التام للإيمان.

هي صفات إنسانها العظيم، وقد اجتمعت له لتأخذ عنه الحياة إنسانيتها العالية؛ فهي بذلك من برهانات نبوته ورسالته.

ولو جمعت كل أوصافه صلى الله عليه وسلم ونظمتها بعضها إلى بعض، واعتبرتها بأسرارها العلمية لرأيت منها كونا معنويا دقيقا قائما بهذا الإنسان الأعظم، كما يقوم هذا


* انظر صفحة ٢٤١ من حياة الرافعي.
١ جمعنا هذه الأوصاف من روايات مختلفة، وجعلناها كالحديث الواحد.

<<  <  ج: ص:  >  >>