للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الشعر العربي في خمسين سنة ١:

إذا اعتبرت الشعر العربي قبل خمسين سنة خلت "أي قبل إنشاء المقتطف" وتأملت حليته ومعرضه، ونظرت في منهاجه وطريقته، وتصفحت معانيه وأغراضه -لم تر منه إلا شبيهًا بما تراه من بقايا الورق الأخضر في شجرة ثقل عليها الظل فهو جامد مستوخم، وحم في ظلها شعاع الشمس فهو بارد يرتعد، فالحياة فيها ضعيفة متهالكة، لا هي تموت كالموت ولا هي تحيا كالحياة، وما ثم إلا ماء ناشف ورونق عليل ومنظر من الشجرة الواهنة كأنه جسم الربيع المعتل بدت عروقه وعظامه.

كان ذلك الشعر فاسد السبك، متخلف المنزلة، قليل الطلاوة، بين مديح قد أعيد كل معنى من معانيه في تاريخ هذه اللغة بما لا يحصيه إلا الملائكة الموكلون بإحصاء الكذب، وبين هجاء ساقط هو بعض المواد التي تشتعل بها نار الله يوم تطلع على الأفئدة، وبين غزل مسروق من القلوب التي كانت تحب وتعشق، وبين وصف لا عيب لموصوفه سواه، وشكوى من الدهر يشكو الدهر منها، وتحزن وبأس وندب تجعل ديوان الشاعر كما سمي أحد ظرفاء القرن الثاني عشر للهجرة ديوان أحد أصحابه "بالملطمة.." ورثاء كقراءة القراء في جنازات الموتى، لا فيها عظة السكوت ولا فائدة النطق، وتغمر كل ذلك أنواع من الصناعة بينة التعسف، ضعيفة التقليد، لا ترى المتأخر فيها مع المتقدم إلا قريبًا مما يكون عمل اللص في أخذ المال، من عمل صاحب المال في جميعه؛ والعجيب أنك إذا اعترضت الشعر من القرن العاشر للهجرة إلى القرن الثالث عشر "السادس عشر للميلاد إلى التاسع عشر" رأيته نازلًا من عصر إلى عصر بتدريج من الضعيف إلى الأضعف، حتى كأنما ينحط بقوة طبيعية كقوة الجذب، كلما هبطت شيئًا أسرعت شيئًا إلى أن تلصق بالأرض، وبعضهم يسمي هذه العصور بالعصور المظلمة، ولم


١ المقتطف: يناير سنة١٩٢٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>