يتنبه أحد إلى أن في الأدب ناموسًا كناموس رد الفعل، يخرج أضعف الضعف من أقوى القوة، وأن انحطاط الشعر في تلك العصور -على أنه لم يكن إلا صناعة بديعية- إنما سببه القوة الصناعية العجيبة التي كانت للشعر منذ القرن السادس إلى العاشر، بعد أن نشأ القاضي الفاضل المتوفى سنة ٥٩٦هـ "١١٩٩م"؛ وكان رجلًا من الرجال الذين يخلقون حدودًا للحوادث تبدأ منها أزمنة وتنتهي عندها أزمنة؛ ففتن الناس بأدبه وصناعته، وصرف الشعر والكتابة إلى أساليب النكتة البديعية؛ وظهرت من بعده عصابته التي يسمونها العصابة الفاضلية، وما منهم إلا إمام في الأدب وعلومه، فكان في مصر القاضي ابن سناء الملك، وسراج الدين الوراق، وأبو الحسين الجزار، وأضرابهم؛ وكان في الشام عبد العزيز الأنصاري، والأمير مجير الدين بن تميم، وبدر الدين يوسف بن لؤلؤ الذهبي، وأمثالهم؛ فهذه العصابة هي التي تقابل في تاريخ الأدب العربي عصابة البديع الأولى: كمسلم، وأبي تمام، وابن المعتز، وغيرهم؛ وكلتا الفئتين استبدت بالشعر وصرفته زمنًا، وأحدثت فيه انقلابًا تاريخيًّا متميزًا؛ بيد أن العصابة الفاضلية بلغت من الصنعة مبلغًا لا مطمع في مثله لأحد من بعدها، حتى كأنهم لم يدعوا كلمة في اللغة يجري فيها نوع من أنواع البديع إلا جاءوا بها وصنعوا فيها صنعة؛ وكان بعضهم يأخذ من بعض ويزيد عليه، إلى آخر المائة الثامنة، فلم يتركوا بابًا لمن يأتي بعدهم إلا باب السرقة بأساليبها المعروفة عند علماء الأدب.
ولهذا لا تكاد تجد شعرًا عربيًّا بعد القرن التاسع إلا أول النهضة الحديثة، إلا رأيته صورًا ممسوخة مما قبله؛ وكل شعراء هذه القرون ليسوا ممن وراءهم إلا كالظل من الإنسان: لا وجود له من نفسه، وهو ممسوخ أبدًا إلا في الندرة حين يسطع في مرآة صافية؛ ومتى كان الشعراء لا ينشئون إلا على فنون البلاغة وصناعاتها، وكانت هذه كلها قد فرغ منها المتقدمون؛ فما ثم جديد في الأدب والفن إلا ولادة الشعراء وموتهم، وإلا تغير تواريخ السنين.. وهذا إذا لم نعد من الأدب تلك الصناعات المستحدثة التي ابتدعها المتأخرون مما سنشير إلى بعضه: كالتاريخ الشعري وغيره.
إن الفكر الإنساني لا يسير التاريخ، ولا يقدر قدرًا فيه، ولا ينقله من رسم إلى رسم؛ لأنه هو نفسه كما خلق مصلحًا خلق مفسدًا وكما يستطيع أن يوجد يستطيع أن يفني، وكما تطرد به سبيل تلتوي به سبيل أخرى؛ وما أشبه هذا الفكر