في روعته بقطار الحديد: يطير كالعاصفة ويحمل كالجبل ويدهش كالمعجزة، وهو مع كل ذلك لا شيء لولا القضيبان الممتدان في سبيله، يحرفانه كيف انحرفا، ويسيران به أين ارتميا، ويقفان به حيث انتهيا؛ ثم هو بجملته ينقلب لأوهى اختلال يقع فيهما.
لا جرم كانت العصور مرسومة معينة النمط ذاهبة إلى الكمال أو منحدرة إلى النقص، حسب الغايات المحتومة التي يسير بها الفكر في طريق القدر الذي يقوده.
فهذه علوم البلاغة التي أحدثت فنًّا طريفًا في الأدب العربي، وأنشأت الذوق الأدبي نشأته الرابعة في تاريخ هذه اللغة، بعد الذوق الجاهلي، والمحدث والمولد -هي بعينها التي أضعفت الأدب وأفسدت الذوق وأصارته إلى رأينا في شعر المتأخرين، كأنما انقلبت عليهم علومًا من الجهل، حتى صار النمط العالي من الشعر كأنه لا قيمة له؛ إذ لا رغبة فيه، ولا حفل به؛ لمباينته لما ألفوا وخلوه من النكتة والصناعة؛ وحتى كان في أهل الأدب ومدرسيه من لا يعرف ديوان المتنبي!
ولا يصف لك معنى الشعر في رأي أدباء ذلك العهد كقول الشيخ ناصيف اليازجي المتوفى سنة ١٨٧١:
مللت من القريض وقلت يكفي ... لأمر شاب قوته بضعف
أحاول نكتة في كل بيت ... وذلك قد تقصر عنه كفى
أجل الشعر ما في البيت منه ... غرابة نكتة أو نوع لطف
يريد النكتة البلاغية وأنواع البديع، وذلك ما قصرت عنه كفه وكف غيره؛ لأنه شيء مفروغ منه، حتى لا يأتي المتأخر بمثال فيه إلا وجدته بعينه لمن تقدموه على صور مختلفة ينظر بعضها إلى بعض وما يأتي اختلافها إلا من ناحية الحذق في إخفاء السرقة بالزيادة والنقص، والإلمام والملاحظة والتعريض والتصريح وغيرها مما يعرفه أئمة الصناعة، ولا يتسبب إليه بأقوى أسبابه إلا من رزق القوة على التوليد والاختراع.
إذا عرفت ذلك السر في سقوط الشعر واضطرابه وسفسفته، لم تر غريبًا ما هو غريب في نفسه، ومن أن بدء النهضة الشعرية الحديثة لم تكن العلم الذي يصحح الرأي، ولا الاطلاع الذي يؤتي الفكر، ولا الحضارة التي تهذب الشعور، ولا نظام الحكم الذي يحدث الأخلاق، وإنما كان ضربًا من الجهل وقف حدًّا