للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

منيعًا بين زمن فنون البلاغة وبين زماننا؛ وكان كالساحل لذلك الموج المتدفع الذي يتضرب على مدة ثمانمائة سنة من القرن السادس إلى الرابع عشر للهجرة؛ ولله أسرار عجيبة في تقليب الأمور وخلق الأحداث ودفع الحياة الفكرية من نمط إلى نمط، وإخراج العقل المبتدع من هيئة إلى هيئة، وجعل بعض النفوس كالينابيع للتيار الإنساني في عصر واحد أو عصور متعاقبة، وإقامة بعض الأشخاص حدودًا على الأزمنة والتواريخ؛ فكان الذي أحدث الانقلاب الرابع في تاريخ الشعر العربي، وأنشأ الذوق نشأته الخامسة، هو الشاعر الفحل محمود باشا البارودي الذي لم يكن يعرف شيئًا البتة من علوم العربية أو فنون البلاغة؛ وإنما سمَت به الهمة؛ لأنه حادثة مرسلة للقلب والتغيير، فأبعده الله من تلك العلوم، وأخرجه لنا من دواوين العرب، كما نشأ مثل ابن المقفع والجاحظ من فصحاء الأعراب، ويسر له من أسباب ذلك ما لم يتفق لأحد غيره مما لا محل لبسطه هنا، ولا تكاد تجد شعر أديب متأخر يستقيم له أن يذكر في شعر كل عصر من لدن زمننا إلى صدر الإسلام ثم لا تنحط مرتبته غير كلام البارودي هذا؛ وهو وحده الذي يقابل القاضي الفاضل في أدوار التاريخ الأدبي، على بعد ما بينهما؛ لأن شعره هو الذي نسخ آية الصناعة، ودار في ألسنة الرواة، وكان المثل المحتذى في القوة والجزالة ودقة التصوير وتصحيح اللغة؛ ولم يشأ الله أن يسبقه إلى ذلك أحد؛ لأن النهضة الاجتماعية في هذا الشرق العربي كانت في علم الله مرهونة بأوقاتها وأسبابها؛ ولولا ذلك لسبقه شاعر القرن الحادي عشر الأمير منجك المتوفى سنة ١٠٨٠هـ "١٦٦٩م"؛ فقد اتفقت لهذا الأمير نشأة كنشأة البارودي، فكان كثير الحفظ من دواوين العصور الأولى، وكان يقلد أبا فراس الحمداني ويحتذي على مثاله؛ ولكن عصره كان في العصور الهالكة، فخرج الشاعر ضعيفًا كما يخرج كل شيء في غير وقته ولغير تمامه وبغير وسائله الطبيعية.

ونشأت العصابة البارودية وفيها إسماعيل صبري وشوقي وحافظ ومطران وغيرهم، وأدركوا ما لم يدركه البارودي وجاءوا بما لم يجئ به، واتصل الشعر بعضه ببعضه، وسارت به الصحف، وتناقلته الأفواه، وأنسي ذكر البلاغة وفنونها بالنشأة المدرسية الحديثة التي جعلت من ترك البلاغة بلاغة؛ لأنها صادفت أوائل الانقلاب ليس غير؛ وبذلك بطل في مصر عصر أبي النصر والليثي والساعاتي والنديم وطبقتهم، وفي الشام عصر اليازجي والكستي والأنسي والأحدب وأضرابهم، وفي العراق عهد الفاروقي والموصلي والبزاز والتميمي وسواهم؛

<<  <  ج: ص:  >  >>