واستقل الشعر عربيًّا وخرج كما يخرج الفكر المخترع ماضيًا في سبيل غير محدودة.
لا ريب في أن الطرق التي تتبع في تربية الأمة وتكوين روحها العالمية لا بد أن يكون لها أثر بين في شعر شعرائها؛ فإنما الشعر فكر ينبض وعاطفة تختلج، وما أرى الشاعر الحق من أمته إلا كالزهرة الصغيرة من شجوتها: إن لم تكن خلاصة ما فيها من القوة، فهي خلاصة ما في الشجر من معنى الجمال ولونه وملمسه، ولا تعدم مع هذه الصفة أن تكون وحدها الكوكب الساطع في هذا الأفق الأخضر كله، ولقد اطردت النهضة منذ خمسين سنة أو حولها، في الأدب والعلم؛ وفي الفكر والفن والصناعة؛ وساتوى لنا من ذلك ما لم يتفق لهذه الأمة في عصر من عصورها، حتى بلغنا من ذلك أن صرنا كأنما فتحنا أرضًا من أوربا وتغلبنا عليها، أو أنشأنا أوربا عربية وما نزال نعمرها وننقل إليها العلوم والفنون والآداب، ونستخرج لها الأمثلة والأساليب؛ غير أن الشعر العربي مع هذا كله لم يوف قسطه ولم يبلغ مبلغه في مجاراة هذه النهضة قوة ابتكار وسلامة اختراع وحسن تنوع، لسببين: الأول أنه لا يزال كما كان منذ فسدت اللغة العربية: شعر فئة لا شعر أمة، فهو يوضع للخاصة لا للشعب. ويدور مع الأغراض والحاجات لا مع الطبائع والأذواق؛ وذلك لو تأملت هو من بعض الأسرار في سمو هذا الشعر وقوة إحكامه وإبداع تنسيقه وجمال توشيحه منذ الدولة العباسية إلى القرن الخامس؛ ثم انحطاطه بعد ذلك وتدنيه شيئًا فشيئًا حتى بلغ الدرك الأسفل في العصور المتأخرة؛ إذا كانت الفئة التي يوضع لها ويصف أهواءها وأغراضها وتتقبله وتثيب عليه وتحسن وزنه ونقده، هي في الناحيتين كما ترى من طرفي المنظار الذي يقرب البعيد، فهي بالنظر في أوله واضحة جلية مترامية إلى الجهات، وبالنظر في آخره ضئيلة ممسوخة لا تكاد تعرف. وما أقضي العجب من غفلة بعض الكتاب في هذا الزمن إذ يناهضون العربية ويزرون على الفصاحة ويعملون على انكماش سوادها وتقليل أهلها، وما يدرون أنهم بذلك يسقطون الشعر قبل الكتابة على خطأ أو عمد وقلما تجد واحدًا من هؤلاء يحسن معالجة الشعر، فإن أصبت له شعرًا وجدته لا غناء فيه أو في أكثره، وأين وضعت يدك منه لم تخطئ أن تقع على مثل مما يمثل به لعيب من عيوب البلاغة.
وهذه النهضة التي نحن في صدد الكلام عنها أوسع مدى وأوفر أسبابًا من تلك التي كانت في الدولة العباسية، بما دخلها من أدب كل أمة، وما اتصل بها من