قالوا: إن الأصمعي كان ينكر أن يقال في لغة العرب "مالح"، ويقول: إنما هو ملح، وإن "مالح" هذه عامية؛ فلما أنشدوه في ذلك شعرًا لذي الرمة يحتجون به عليه قال: إن ذا الرومة قد بات في حوانيت البقالين بالبصرة زمانًا..
يريد شيخنا هذا: أن "المالح" في الأكثر الأعم يكون مما يبيعه البقالون، ولغتهم عامية مزالة عن سننها الفصيح، مصروفة إلى وجهها التجاري؛ ولكن كيف بات ذو الرمة في حوانيت البقالين زمانًا حتى علقت الكلمة بمنطقه وجذبه إليها الطبع العامي، ولم يخالط عربيته غير هذه الكلمة وحدها؟ لم يقل الأصمعي شيئًا، ولكن روايته تخبر أن ذا الرمة انحدر من البادية إلى البصرة يلتمس ما يلتمسه الشعراء، فلم كان بها استضاق فلم يصب لجوفه غير الخبز، ولم يجد للخبز غير "المالحة" والبقلة "المالحة"، ويعرفونه مضيقًا إلى فرج، فينسئون له في الثمن إلى أجل حتى يمتدح وينال الجائزة؛ قالوا: ثم يمطره الممدوح ويلوي به ولا يرى في تلفيق العيش رخصًا إلا في "المالح"، فيتتابع في الشراء ويمضون في إسلافه إبقاء عليه وحسن نظر منهم لمنزلته وشعره، ويرى هو أن لا ضمان للوفاء به عليه إلا نفسه، فما بد أن يتراءى لهم بين الساعة والساعة، فيخالطهم فيحدثهم فيسمع منهم، وهم على طبعهم وهو على سجيته؛ ثم لا يقتضونه ثمنًا، ولا يزالون يمدون له، فلا يزال "المالح" أيسر منالًا عليه، كما هو إلى نفسه أشهى، وفي جوفه أمرًا، لمكان أعرابيته وخشونة عيشه، فيصيب عندهم مرتعة من هذا "المالح". قالوا: ثم يرى البقالون أن لا ضمان لم اجتمع عليه إلا أن يكون الشاعر معهم، فيلزمونه الحوانيت بياض يومه، ويغلقونها عليه سواد ليلته، فهم يمسكونه بالنهار وتمسكه الحيطان والأبواب بالليل!
١ بهذا المقال بدأ المؤلف عمله في الرسالة؛ وانظر ص١٩١ "حياة الرافعي".